الحسناء... وليلة رأس السنة

منال المغربي

[email protected]

منذ أسبوع والتحضيرات في المنزل تجري على قدم وساق للاحتفال برأس السنة الميلادية، وضعت الأم أكياس المشتريات على طاولة المطبخ وسارعت بالولوج إلى غرفة الجلوس لتلتقط أنفاسها... أمارات التذمر بادية بوضوح على محياها، أبعد زوجها الصحيفة عن وجهه مستوضحاً: ((ما بكِ؟)).

((أتصدّق أنّ المبلغ الذي أعطيتني إياه لم يكفِ... غلاء فاحش!!...))

ألقى الزوج الصحيفة من يده وسارع بالخروج متمتماً: ((عندي موعد ضروري في العمل لا أستطيع التأخّر))،  لحقت به صارخة: ((وقالب الحلوى؟! ؟... أيعقل أن نحتفل مع أصدقائنا  وجيراننا بدونه...)).

((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء... لقد أثقلتِ كاهلي بطلباتك... اطلبي من حسام...))

((حسام؟! ها... ها... لا أصدق أذني... أطلب من حسام!!...)) ضحكات استهزاء وتعجب متتالية صدرت منها وهي تكرّر اسم ابنها، حملت حقيبتها وخرجت من منزلها ولسان حالها يردد: ((ما حكّ جلدك مثل ظفرك)).

عند مدخل البناية تقابل الوالدان مع ابنهما، وكالغريق الذي يتمسّك بقشة أمسكت الأم ذراع ولدها ترجوه: ((حبيبي حسام أريدك أن تُسدي لي خدمة...)) عاجلها بالقول: ((ماما مستعجل كثيراً... أصدقائي ينتظرونني ولم أجهّز نفسي بعد.. أريد أن أذهب إلى الحلاق ثم أستحم...)) أشاح حسام نظره عن والدته ليثبته على ابنة جارهم أبي عماد التي ما أن أصبحت بجانب الأم حتى ألقت التحية وأعطتها ورقة مزخرفة جميلة الشكل، ألقتها أم حسام أرضاً ثم صرخت بها وعيناها تقدحان شرراً: (( وكأنه ينقصني أنتِ أيضاً...البارحة والدك وأخوك وقبله والدتك واليوم أنتِ؟ من عيّنكم أوصياء على الناس؟))

التقط حسام الورقة من على الأرض معاتباً والدته: ((لماذا خاطبتها بهذه الطريقة أمي؟)) وأخذ يقرأ ما حوته الورقة المزخرفة بتمعن... تحذيرات وتنبيهات عن حرمة مشاركة غير المسلمين بأعيادهم... توقف نظره عدة مرات عند عبارة(من تشبّه بقوم فهو منهم)، وعلّق الأب: ((إنها فتاة لطيفة وخلوقة وعائلتها كذلك، ثمّ وبصراحة معهم حقّ ما لنا وهذه الأعياد التي يختلط فيها الحابل بالنابل... ثمّ ألا تخافين على أولادنا من هذه المناسبات؟....)) وتابع الأب حديثه: ((اقشعر بدني البارحة حينما سرد أبوها أبو عماد على مسامعي حديث رسول صلى الله عليه وسلم: ((لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) لماذا لا نستجيب لما يدعوننا إليه هذا الجار الصالح وعائلته؟! فقد وجدوا آذاناً صاغية من بعض الجيران...))

قاطعته بعصبية: ((لا تتفوّه بكلمة أخرى لو سمحت... اذهب إلى عملك ودعني أُحضر ما تبقى من الأغراض)).

في المساءُ قضى حسام وقتاً طويلاً وهو يحضّر نفسه لهذه الليلة، وقف يحدّق بمظهره في المرآة وهو يترنّم بإحدى الأغنيات التي تصدح في أرجاء المنزل وتُنبىء ببداية السهرة: ((لقد قتّرت على نفسي كثيراً لأبدو بهذه الحُلّة...)) تابع تحديقه في المرآة: ((أبو السوس لن تقوى دانا على الصمود أمامك اليوم بل ستنهار دفاعاتها بمجرّد أن ترى وسامتك)) أخذ يستعرض بمخيلته أسماء وصور الفتيات اللاتي غرّر بهن الأعوام السابقة... ((عام 2007 رندة... عام 2006 ابتسام... عام 2005 لا أذكر اسمها...)) وميض خبيث انبعث من عينيه... حاول تبرير أفعاله فوجّه حديثه لصورته التي تنعكس في المرآة: ((لسن ساذجات... هن اللاتي جعلن أنفسهن غنيمة سهلة لكل طامع)).

وقطع عليه حبل أفكاره رنين هاتفه الخليوي: ((نعم بسّام.. ماذا هناك))؟

بسّام: ((أتذكر تلك الحسناء التي أخبرتك عنها))؟

حسام: ((نعم، ما بها))؟

بسّام: ((سترافقني الليلة إلى المطعم...هههههههه.... وأخيراً وقعت في حبائلي... لقد اتصلت بي اليوم لذا لا تنتظروني سأستأجر سيارة أرافقها بها...)).

ردّ عليه حسام ضاحكاً: ((ومن قال أننا سننتظرك... ثم هكذا أفضل...أربعتنا فقط في السيارة أنا ودانا ورامي وصديقته))

رشة عطر من هنا ومسحة جل من هناك... لمسات أخيرة لا بدّ منها خرج حسام بعدها من الغرفة ولكنه ما لبث أن عاد إليها مسرعاً: ((نسيت كاميرا الديجيتل.. من سيصدق أني سمعت للمطرب الفلاني المشهور في هذا المطعم الفاخر الذي كلفني سعر بطاقاته مرتب 3 شهور؟!!))؟!!

مرّ بجانب غرفة أخته كالريح المرسلة ولكنه عاد القهقرى، فلقد استرعى انتباهه رائحتها العطرة وفستان السهرة الآخاذ وتسريحتها الجذّابة ومكياجها الناعم: ((يبدو أنكِ دفعتِ مبلغاً طائلاً في صالون التجميل...)) تبادلا الضحكات وغمزته قائلة: ((وأنتَ أيضاً))!

 ((ستقضين السهرة عند صديقتك كما كل عام))؟ سؤال فضولي لم يهدف من ورائه شيئاً.. منذ متى يتدخّل في خصوصيات أخته؟... هزّت رأسها موافقة... رن الهاتف الخليوي مجدداً فقطع عليهما الحديث، حسام: ((أين أنت؟... نعم.. نعم... دقائق وأكون عندك))؟ نظر إلى أخته نظرة غير مبالية ثم قال: ((إلى اللقاء))؛ أما هي فلقد خرجت لاستقبال الضيوف الذين دعتهم والدتها...  

عندما رأت الابنة الجمع الغفير المحتشد في صالة الاستقبال همست بأذن والدها: ((لم يبق أحد من الجيران إلا ودعته أمي... لم يبق إلا ناطور البناية وزوجته)) لم يردّ الأب، فاستفسرت الابنة: ((ما بك أبي؟ لا يبدو عليك أنك سعيد...))

نظراته عصرت فؤادها عصراً: ((تريدين الصراحة ابنتي... نعم لست سعيداً.. ما هذه العادات التي وفدت إلينا... أشعر أني خرجت من جلدي... لا يعجبني حالنا... لا يعجبني... ))

لم يرق لها كلام أبيها كما العادة، فاستأذنت منه: ((يكفي أبي... لا تفسد علينا فرحتنا بهذا العام...))

استنكر الأب عبارتها: ((فرحة؟!.. نعصي الله ونفرح...))؟!

قاطعته بحدّة: ((وكأنّ أبا عماد وزوجته وابنته وابنه هم الذين يتحدثون... سأخرج الآن، إن أردتم أي شيء فاتصلوا بي على هاتفي النقال))

((نعم... لا حسيب ولا رقيب... فأنا طرطور العائلة ... لا سلطة لي على أهل بيتي.. ما هذه الحياة التي أحياها!!)) صراخه أدهش الضيوف بما فيهم ابنته التي ترقرق الدمع في مقلتيها فغادرت بصمت دون أن تتفوه بكلمة؛ أما هو فنظر في الجمع نظرة اشمئزاز، وتابع صراخه: ((المسلمون أسلوب حياتهم مختلف... مختلف... )) ثمّ خرج هو الآخر لا يلوي على شيء.

أما الابن فبعد جولة سريعة في السيارة مع أصحابه وصلوا إلى الملهى...صوت موسيقى صاخب يصمّ الآذان... أنوار ساطعة تخطف الأبصار...زجاجات الخمر تنتصب خلف مِنصّة البار وعلى الطاولات كأنها رؤوس الشياطين... ودخان كثيف ينبعث من السجائر والنراجيل... وأجساد تلاصقت على حلبة الرقص وكأنها توائم سيامية... منظرٌ تعمى له القلوب...

مشى حسام وأصحابه خلف النادل وكأنهم قطيع من الغنم يُساق إلى الذبح: ((هذه طاولتكم))، همس رامي في أذن صديقه وهو يتأمل أصناف الأطعمة والأشربة التي تهبط على طاولتهم: ((ألا يستحقّ المكان والمناسبة والصبايا المبلغ الذي دفعنا))؟ تفحص حسام ما حوله جيداً.. لماذا في هذه اللحظة خطر في باله مضمون الورقة التي رمتها الوالدة على الأرض؟!!... نظر حسام إلى صديقه رامي نظرة حملت  الكثير من المعاني تعجّب لها صديقه: ((ما بك؟ لم تردّ عليّ؟ ألا يستحقّ))؟

وبصعوبة خرج الجواب من حلقه: ((بلى يستحقّ...)) ثمّ عقّب بصوت خفيض: ((جهنم وبئس المصير)).

وتلاشت محتويات الورقة من ذاكرته حينما لمح حسام ورامي من بعيد صديقهما بسّام، ارتفعت الأكف بالتصفيق والشفاه بالتصفير، تصنّع رامي الشفقة فقال: ((تلك الحسناء... حمل وديع وقع في براثن ذئب مفترس)).

جذب حسام صديقته دانا إلى حلبة الرقص ثمّ وجّه كلامه إلى رامي: ((هيا بنا نمازحه قليلاً...)) أخذ حسام يشق طريقه بصعوبة للوصول إلى بسّام وصديقته... أسوار بشرية راقصة ((وكأننا نخترق سور الصين العظيم)) صاح رامي...

وأخيراً تمكنا من الوصول.. هاهو بسّام يحيط الحسناء بكلتا يديه، وكزه حسام على كتفه قائلاً: ((هل تعرّفنا على ...)) بقي السؤال معلّقاً... عجز لسان حسام عن إكمال عبارته، لأنه ما أن استدار بسّام حتى اصطدمت عينا حسام بعيني الحسناء التي لم تكن سوى... شقيقته.