عنترة في عصر ما بعد الحداث

نهى الافغاني

عند الضحى صوت وصول رسالة نصية على جوال عنترة يوقظه من نومه، فينهض بتكاسل، كانت سهرة طويلة ليلة أمس مع الأصدقاء، استمرت حتى ساعات الصباح الأولى، تخللها لعب الورق، وتدخين الأرجيلة..

يفتح عنترة الرسالة، رسالة من إحدى المعجبات – وما أكثرهن- تتغزل فيها بجمال سمرته القانية وذكائه في تعامله مع الجنس اللطيف وتدعوه إلى الخروج معها..

"يا للنساء!!"..

عنترة مغرور فحياته مليئة بهن، وأينما ذهب فالنساء يتهافتن عليه..

ينهض عنترة ويرى صورة "عبلة" الموضوعة في إطار إلى جانب سريره. ينظر إليها قليلا، يحملها، يتأملها، يفتح جارورا يضعها فيه ويغلقه..

يرن الهاتف فإذا بها عبلة، يتمعر وجه عنترة، يلحّ الهاتف أكثر، يقفل الخط ويرمي بالهاتف على السرير، يخرج عنترة سيجارة يشعلها وينفث بعصبية..

صوت وصول رسالة على الهاتف، يمسك عنترة الهاتف، رسالة من عبلة:

" عنترة .. الخيل قد اشتاقت إليك..

والرمال يا عنترة..

متى تعود؟!"

يشتاط عنترة غضبا، يهاتف عبلة، ترد عليه، يصيح عنترة :

"عبلة أخرجي من حياتي، لقد سئمتك، سئمت صوتك الرصين، سئمت سمرة وجهك، سئمت لباسك المتخلف..

أخرجي من حياتي..

أخرجي.."

يقفل الهاتف بعنف..

يرتدي عنترة بنطال الجينز الذي لا تملك ولا أقوى الأحزمة في العالم على ضبطه في مكانه فيتسلل للأسفل دوما..

يصفف شعره، يتأمل وجهه في المرآة.. "هل لا زلت تشبه نفسك يا عنترة؟! هل أنت أنت؟!"..

ينفض غبار الأسئلة التي تهافتت على رأسه، لديه ما يشغله عنها..

يفتح عنترة جهاز (اللاب توب) ، يعاين حسابه على (الفيس بوك)، مئات المعجبات قد تركن تعليقاتهم على الأمسية الشعرية التي استضافته..

- عنترة .. ما أشد وسامتك حين تلقي الشعر

- عنترة .. أعجبني لون كنزتك البرتقالية، كم أنت أنيق..

- عنترة .. ما أجمل شِعرك حين تتغزل بالعيون الزرق والشعر الأشقر..

- عنترة .. أنا فتاة شقراء هل تقبل الخروج معي؟؟

وعلى الإيميل رسائل كثيرة..

من إحدى دور النشر.. تدعوه لكتابة ديوان باللهجة الدارجة التي أصبح شيخ شعرائها وتعده بربح مجزٍ.

من إحدى المؤسسات الثقافية.. تدعوه فيها لأمسية شعرية بمناسبة عيد الفالنتاين.

من إحدى القنوات الفضائية تدعوه لتلحين إحدى قصائده وعمل كليب للأغنية يشمل عروضا راقصة لفتيات رشيقات بثياب مغرية..

إيميل من عبلة.. ياه يا عبلة ألا تملين؟!!.. يفتح الإيميل..

"عنترة..

المعلقات تدعوك يا سيدها..

اللغة مشتاقة للهيب قصائدك..

عد يا عنترة..

عد يا عنترة.."

يقفل عنترة الجهاز، "أحتاج أن أنسى.."

حين تثقل النفس بالأوهام، تنوء الكواهل بالأحمال فتبحث عن متنفس مزعوم..عنترة مثقل بالوهم، وسكاكين الحيرة تنهش رأسه..

"أحتاج أن أنسى.."

من بين سحب دخان السجائر يلوح عنترة حاملا بيده كأسا.. يعب منها قليلا ويضحك مع من حوله قليلا.. عنترة يشرب ويشرب، وقد تحلقت حوله مجموعة من المعجبات والمعجبين، يطالبونه بقص ذكريات الزمن الغابر..وعنترة يحدثهم عن معاركه التي خاضها في سبيل الدفاع عن شرف قبيلته عبس، وهم يضحكون مستمتعين كأنهم يتابعون فيلما عن الغرب الأميركي..

من باب الملهى تظهر عبلة، تنظر إلى الداخل باحثة عن عنترة، تلمحه من بعيد فتهرع إليه، تقف أمامه تمسك كتفيه وتهزه بشدة..

"عنترة.. أصبحنا مستباحين من بعدك..

أغارت القبائل علينا..

عد يا عنترة..

عد يا عنترة.."

عنترة أثقلت الخمر لسانه، يزيح عبلة عنه "أذهبي عني، فلتذهب القبيلة ومضاربها إلى الجحيم" ، يدفع عنترة عبلة بعيدا.. تسقط عبلة!!..

عبلة.. ابنة سيد قبيلة عبس.. أشرف بنات القبيلة حسبا ومكانة.. التي طالما اشتعلت الحروب بين شبان قبائل الصحراء في سبيل خطب ودها..

تسقط أرضا..

شيء ما في داخل عنترة يهتز لمرآها وقد سقطت، يقف بذهول.. يسكت جميع من في الملهى، يتوقف صوت الموسيقى..

عنترة ينتظر أن تنظر إليه عبلة ، أن تشتمه، أن تصفعه، عبلة تنهض دون أن تنظر إليه، تقف، ترفع رأسها عاليا، تسير بشموخ كما هي دوما، عنترة أهان نفسه ولم يهنها.. تخرج من الملهى..

عنترة يشعر بدوار، يهتز، يركض نحو الشارع، يجري ويجري، والدموع تنهمر شلالات من عينيه..

في اليوم التالي، حمل عنترة سيفه، وامتطى فرسه، وانطلق، كان عنترة متألقا، تلتمع عيناه وصوته يصخب صائحا : "من يغير على بني عبس وأنا فيهم..يا ويل من استباحوا قومي ، قدد أتيتكم بالذبح.." ويهجم عنترة وينقض بالسيف وصوته يثير الرعب فيمن حوله..

وفجأة يراها.. كانت عبلة تحاول الوصول إليه من بين الجموع التي أحاطته.. ونظرة خيبة تملأ عينيها المذعورتين..

يعجب عنترة من نظرتها ويصيح :"عبلة ها أنا ذا قد امتشقت سيفي وركبت فرسي".. أصوات ضحكات تتعالى فيمن حوله، يعجب عنترة من هذا الضحك وسط معمعة الحرب وقد حمي الوطيس..

ينظر لعبلة التي ما زالت تحاول الوصول إليه..

"ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ"

أصوات الضحكات تتعالى.. "يا لقومي ما أصابهم، يضحكون وسط المعركة!!" تصل إليه عبلة والدموع قد ملأت وجهها المرتسم بالخيبة..

"عنترة استيقظ .. استيقظ.." .. "ما الأمر يا عبلة؟" .. "عنترة أنت تحمل سيفا بلاستيكيا وتركب فرسا خشبية".. "ماذا؟؟" .."عنترة أنت في مدينة الملاهي يا عنترة..استيقظ..استيقظ.."

ينظر عنترة حوله .. مدينة الملاهي.. فرس خشبية .. سيف بلاستيكي.. واخيبتاه..

يغيب عنترة عما حوله، يشتمُّ رائحة خيله، ويحس بملمس مقبض السيف في يده، وعاصفة من رمال، ورؤوس الأعداء تتهاوى..

"ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيلُ الفوارس ويكَ عنتر أقدمِ"

عنترة.. أنت سيد المعارك، والرمال ..

عنترة .. لا قيمة للصحراء دونك.. من يحمي بني عبس في غيابك..

حين يعاوده صخب المكان، ينظر بذهول حوله..مدينة الملاهي .. الألعاب الكهربائية.. الخيول الوهمية .. السيوف البلاستيكية.. وعدد من الشبان البائسين جاءوا يبحثون عن فتات اللهو واللعب..

يقف عنترة بصعوبة ويمشي محدودب الظهر كشيخ على شفا قبر، تقف عبلة ترقبه ودموع من ألم ممضّ تنهمر في غفلة منها..

في اليوم التالي.. وُجد عنترة مقتولا في بيته..قد أحاطت القصائد عنقه، وكبلته الأوراق حتى اختنق.