الوهم

يوسف حامد أبو صعيليك

[email protected]

وقالت الزرقاء :

- أيها القوم ، إن الجراد آت لا محالة ، ليس يحمل معه إلا ما يجلب الويل ، فإن أطعتموني فذاك ، وإن توليتم فما أراني إلا باكية بكاءً مراً .

غير أن القوم ما لبثوا أن سخروا من قولها هازئين ، فضجت جنبات القاعة بالضحك والاستهزاء ، وصاح مستنكرهم غاضباً :

- لك الويل أيها المتنبئة ، أفي ليلة عرس مولانا تستجلبين ما يكدر الصفو ، ويذري رماد الأسى في العيون ، أم هل أورثتك أمك الكهانة ونحن لا ندري ؟.

قالت الزرقاء :

- أيها المفزوع من وهج الحقيقة ، أعراس مولانا صارت ألف ليلة وليال ، والرمال روعها نزيف الفرح الزائف .

هز الملك العروس رأسه ، ولم يتكلم ، غير أن وميض الغضب بدا في عينيه ، ثم أوحى للوزير أن تتابع المعازف أناشيد الفرح ، وأن ترقص الراقصات من جديد .

أدارت الزرقاء عينيها في وجوه الحاضرين ، واتكأت على عصاها وغادرت القصر الذي عادت الموسيقى تصدح في أرجائه ، وأخذت الخصور تتمايل في قاعاته .

في سكون الليل جلست على الصخرة الكبيرة تراقب التماع بنات نعش ، تسائلت في نفسها :

- النجوم شيء من الماضي ، فكيف يزعمون أنها تنبيك عن الآتي ؟!.

ركلت الحصى برجليها وأخذت تمشي عائدة ، غير أن الحيرة لم تفارقها ، الجراد آت لا محالة ، والزرع أينع ونضرت أوراقه ، والأنين الخفي يحتل الأرض ، والهوى يحتل الأفئدة .

وأمسكت عصاها ووقفت ترقب البدر الطالع في زهوه ، وتناهى الصوت المألوف إلى مسمعها :

-  يا أم ، الحريق فيك بلا فائدة .

ومسحت بطرف كمها دمعتين نزلتا على خدها :

- هناك حريق أكبر سيأكلهم إن لم أوقظهم .

وعاد الصوت المألوف :

- هم اختاروا الرماد .

- لن أتركهم له .

صاح فيها الصوت :

- سيقتلونك قبل ذلك .

- ليتهم يفعلون .

-  مولانا موجود لشيء لا تفهمينه ، وأنت موجودة لشيء بعيد عن أعينهم ، كلاكما لا يلتقي أنت ....... وهم.  

حركت بطرف عصاها بقايا الجذوات ، ثم أضافت بعضاً من جذور يابسة إليها ، وأخذت تنفخ كي توقد الجذور ، حدقت في النار لما اشتعلت ، رأتهم هناك يتصارخون ، ورأت الزرع النضر قد صار لا شيء في يد الجراد ، ورأت عيون الجراد تكبر .... تكبر ... تتضخم ، هناك كانت تسكن العروس الجديدة ، ما زالت ترتدي ثيابها .... السوداء البهية ، هناك رأت الليل طويل .................... طويل جداً .

أخذت النار تخبو ، فأمدتها ببعض الجذور ، وعادت تنفخ من جديد ، أبصرته هناك ينظر إليها ، نضراً ، مورقاً ، باسم المحيا ، ناداها فلم تستطع الذهاب ، ونادت :

- أيها المصلوب على ذاكرة النسيان !.

سمعت نداءه البعيد ، غير أن جمرة قفزت إلى ثوبها أيقظتها ؛ فقامت مبتعدة عن النار ، عادت تنظر للبدر :

- نسوك أيها القتيل ، ونسوا معك كل شيء .

ولما لم يجبها القمر ، أوت إلى فراشها الذي سكن فيه الأرق .

في الصبيحة أطلت عجوز تتكئ على عصا قدت من شجرة عتيقة من خلف الخباء وصاحت فيها :

- إيه يا عجوز النحس ، كدت تفسدين الفرح ليلة الأمس .

نظرت إليها الزرقاء بعين نصف مغمضة وقالت هازئة :

- الفرح المزيف !.

صاحت فيها العجوز :

- يبدو لعيني أنك قد احترفت صناعة الشؤم والتخريف مهنة لك تشيعينها بين الخلق ، فتجدين متعة الحياة في إتعاسهم .

- لماذا لا ترى عيناك ما حولك بحق ؟.

قالت العجوز هازئة :

- وما هو هذا الحق الذي عميت عنه ؟.

قالت الزرقاء :

- الجراد حولك .

- الجراد وهمٌ تحاولين زرعه في رؤوسنا ، وما أراك إلا قاضية على نفسك .

ومضت تتكئ على عصاها الغليظة .

صرخت الزرقاء :

- الوهم أنتم ، ........ هاهو الجراد أمامكم .

ودفنت رأسها في الوسادة ، وأخذت تنوح ، غير أن ثغاء الشويهات ، استدعاها فقامت تتهادى على عصاها .

في المرعى تركت الشياه تنتقي الكلأ من بين الصخور ، وجلست تطلب الراحة المفقودة فوق صخرة صغيرة .

أخذت تحدق في حجارة الفلاة الصوانية ، رأت قدْحَ شرر الصوان يأتيها من خلال التماعات ومض الشمس في الصحراء  ، فكرت بصوت مسموع :

- أيقدح الصوان هكذا بلا سبب ، ؟، أم أنها تعلمنا بالقدوم المميت ؟، ما قدحت لخير أيها الصوان ، ....... شارة النذير هي .

وأدارت عينيها في الفلاة ، ونادت كأنما تحادث الأعشاب:

- ما أخصبت الأرض إلا جاءوا ، وما ترَكَنا المحل إلا هذا العام .

وتسائلت :

- أكلما أخصبت مرة لم نفرح بذلك الخصب ؟.

وصمتت برهة ثم صاحت :

- لا بد من إيقاظ مولانا .

وأخذت تسرع الخطى مبتعدة عن شياهها .

لما وقفت أمام البوابة نادي الحاجب ساخراً :

- اذهبي إلى شياهك لعل فيها ما يلهيك عن حكاية الجراد أيتها الخرفة .

فصاحت به :

- اصمت أيها الأحمق ، وافتح لي الطريق .

- مولانا نائم ، والصبيحة صبيحة عرس .

- الحاكم لا ينام ، والشمس غطت كبد السماء .

- مولانا نوع مختلف ، ينام نوماً طويلاً لعدله ، حكم فعدل فنام .

- لا بد لي من رؤيته وإن طال الوقوف .

- إذن سوف يطول .

 ولما لم تجد حيلة ، أخذت تنادي بصوت عالٍِ ، فأطل منزعجاً من شرفة من تلكم الشرفات الثلاثمائة وخمس وستين ؛ وأمر غاضباً أن تفتح البوابة .

وصرخ لما دخلت :

- صبري قد نفد .

- رأيت الصوان يقدح بنفسه ويرسل الشرر .

قال وهو يضحك ساخراً :

- بالأمس كنا في الجراد .

- والشرر علامة ، رأيته بعينيَّ.

قال غاضباً :

- عينك صارت وبالاً علينا ، ولا بد من قلعهما .

- بل مرآتكم يا مولاي ، ولئن قلعتا فقد أنذرتا .

قال المولى غاضباَ :

- لا بد لكي نستريح من إتمامه.

 وألقيت العينان  الذبيحتان من إحدى النوافذ ، واجتمع النمل لينال نصيبه .

وصاحت الزرقاء بابتسامة مؤلمة :

- يا مولاي ، ذلكم البصر ، فأين ما هو أخفى ؟.

 وقادها خادم إلى خيمتها ، ولم تنم الليل وناموا ، ولم يصبح أحد سوى كائن واحد .