ابتسامات ما بعد الموت

م. زياد صيدم

[email protected]

كان وحيد أبويه .. لم تصدق أمه أنها حامل بعد عقدين من الانتظار والتضرع، ومناجاة القدير الرحيم في كل صلاة.. عندما أصبح شابا يافعا لم يمنعها شيء لتكرر على مسامعه: لماذا لا تأكل جيدا؟ تبدو لي نحيفا اليوم! تلومه على تقصيره، تمسد شعره، تربت على كتفيه بحنان وشغف.. وما أن تنتهي حتى يبتسم لها ابتسامته المعتادة.. مرت أعوام طويلة، فقد الأب فيها بصره، وأصابه شلل نصفى نتيجة أمراض ألمت به.. وصار محمد معيلهما الوحيد.. ونور قلبيهما.. فجأة، تبدلت الأحوال في ذلك البلد؟ وزاد الغمز واللمز.. واشتدت الصحف الصفراء بلهجتها العنصرية على الجاليات العربية المتواجدة على أراضيها .. فضاقت بهم أحوال البلاد المضيفة.. ولم تعد الأرض ومن عليها تطيقهم!.. في تلك الليلة المشؤومة.. يطرق الباب زوار أشبه بالبوم.. وألطفهم كان يقفز كالغراب: يجب مغادرتكم حالا إلى هناك ؟..نطقها متعجرف بازدراء شديد!.

أين نذهب؟ ماذا تقولون؟ لابد وأنكم أخطأتم العنوان .. ماذا حدث؟ نحن كبار في السن لا نقوى على الحركة كما ترون.. لا دخل لنا بأي شيء ..أناس مسالمون..أجابتهم أم محمد ودموعها تغرق منديلها.. بالكاد تمشى متكئة على عكازها وهى تجوب أرجاء البيت المتواضع معهم..هذه أوامر صارمة يا حاجة ! صباحا ستكونان مع ابنكما في مخيم على الحدود!.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. خرجت مدوية من بين شفتيها مما أثارت حفيظتهم.. فخرجوا مذعورين حانقين.. والشرر يتطاير من عيونهم.

ما أن شق الصباح.. حتى كانوا على الطريق الساحلي بالمئات ..أسر من كل المدن والقرى في ذاك القطر العربي المسلم؟! زاحفة باتجاه الحدود ..تقاطرت قوافلهم محملة بما تيسر من أثاث وممتلكات شخصية..كانت تصل تباعا طوال يوم عاصف بالغبار والرياح .. إنها صحراء قاحلة ..كانت تُسمع في الأرجاء  وعلى كل لسان: لا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل .. أطفال وشيب وشباب.. لا فرق بين مُقعد وكفيف..أو طفل يصرخ متضورا ثدي أمه على استحياء.. فلا يجد قطرة حليب تسد جوعه.. في اليوم الثاني، توافدت مؤسسات إنسانية ودولية تأتى لهم بالمعونات والإغاثة.. كي لا تتهم الأسرة الدولية أو ذاك البلد المضيف بقتلهم من الجوع والعطش..ليس رعبا من ضمير قد تحجر، لكنه خوفاً من محاكمات دولية لجرائم بحق الإنسانية.. شهور مرت ثقيلة يائسة .. ولا حلول تلوح في الأفق..

يخرج محمد ذات مساء حار مع رفاق له في المخيم البائس..يتلمسون نسمات باردة في ليل الصحراء.. يشعر بوخز من جهة صدره ..ما بك ؟ يسأله صديقه ..لا شيء، مجرد وخز أحس به في صدري..يزداد بوتيرة أسرع .. بصعوبة يتنفس.. تخرج منه كلمات قليلة: أبى ..أمي.. لكما الله من بعدى ! دقائق مرت.. كان محمد ابن الخامسة والعشرين يفارق الحياة..لفظ أنفاسه الأخيرة مسجى على رمال الصحراء.. وما تزال يده على صدره.. هكذا بلمح البصر..لقد جاء اجله ..إنها حكمة الخالق.. ارتاح من قهر ذوى القربى..تخلص من التفكير في مستقبل معتم.. وظلم وقهر على مدار الساعة.. لعدم استجابة اى بلد لإيوائهم.

مات محمد وحيد أبويه ومعيلهما.. بعيدا عن أهله ..بعيدا عن وطنه السليب..يترك أبوين عاجزين مريضين.. يعود به الاصدقاء محمولا على الأكتاف.. تنهار الأم وتفقد قدرتها على الحركة..شلل يفقدها النطق.. هكذا أفادت عيادة وكالة الغوث.. المنصوبة في تلك الخيمة المتطرفة عن باقي الخيام.. التي نصبت لتكون شاهداً على عصر التراجع.. وموت الضمير.. وفلس الحجة.. وضياع معاني الإخوة وأواصر القربى.. وفقدان الإنسانية.. فقد جفت كل معانيها.. وتسربت إلى جوف رمال لا نهايات لها.. مبتلعة المنطق والحكمة معها.

يقوم الصليب الأحمر الدولي بناء على مناشدات حثيثة.. بإبلاغ رسالة إلى أخيه في ارض الوطن السليب.. بضرورة عمل لم شمل لهما.. فلا معيل لهما الآن في مخيم الشقاء والموت البطيء.. والناس من حولهما يضيقون بأنفسهم ذرعا..الوضع إنساني صرف.. إنهم الأحياء الأموات.. بحاجة إلى أهل وأقارب.. يرحمون كبرهم ومرضهم وقهر ذوى القربى .. كان أبو محمود يعلم بأن لم الشمل في العرف الدولي.. وتحت سيطرة الاحتلال مسموح به لحالات معدودة ومحدودة .. وحين استقبل خبر ما ألم بأخيه وأسرته.. بكى ليله، وانطلق معظم نهاره يطرق الأبواب الموصدة !..اتجه لتقديم طلب استرحام للاحتلال بواسطة الإدارة المدنية .. ليس سهلا ،هناك حالات كثيرة جلها واسطة ومحسوبية.. أو لمن يدفع رشاوى في جنح الليل...

تمر أسابيع كأنها شهور.. وهو يجرى لاهثا من مكان إلى آخر.. حتى تقطعت أنفاسه  دون فائدة. في ليلة استجار ربه.. وفي الصباح كان ابنه البكر يروى مصيبة أسرة عمه المحجوزة هناك على الحدود؟ استمع إليه صديقه بعناية ..وبسرعة هاتف أحد أنسبائه .. فقد كان والد زوجته مسؤول كبير وذو شان في الحكومة .. يهرع ابن أخيه مع صديقه إليه .. يتفهم وضعهم.. يدير الهاتف.. يؤكد للمدير العام في مؤسسة الإدارة المدنية بان الوضع لا يطاق..إنساني من الدرجة الأولى..يلفت نظره إلى أنهم أقرباء له و يهمه أمرهم.. يتفهم الوضع، ويطالبهم بالقدوم صباحا إلى مكتبه.. الذي كان مستحيلا على أبو محمود الاقتراب منه طوال تلك الأسابيع.. يستمع  إلى التفاصيل المحزنة .. يطالب موظف الأرشيف باستخراج الملف كاملا  ويضعوه له غدا صباحا على مكتبه.. فيوقع عليه عاجل وملح.. مر شهر أو اقل.. كان هاتف أبو محمود يرن بإلحاح: الو.. بيت أبو محمود ؟ نعم من أنت عفوا ؟ مبروك، تم استخراج لم شمل أبو محمد وزوجته.. كانت سكرتيرة المدير العام في وزارة الأحوال المدنية.. تزف النبأ السار.. لقد صدق الرجل، الحمد لله.. عقب أبو محمود على الخبر.. وقد استبشر خيرا لأخيه وزوجته.

وأخيرا يحصلان على مرورهما وإقامتهما في الوطن.. بين الأهل والربع .. يتجه أبو محمود وابنه إلى قُطر مجاور.. ومنها إلى الحدود .. ومن هناك يرافقونهم بعربه إسعاف للصليب الأحمر إلى حيث المعبر إلى الوطن..يدخل أبو محمد نقطة العبور.. وتلامس قدماه أرض بلده.. لا يرى شيئا لكنه يتنسم عبير الأرض.. ورائحة الأهل والديار.. ويستذكر شبابه الأول..يتكئ على زوجته  يهمس لها : أخيرا عدنا إلى الأهل.. أحس بوخز قوي يضغط على قلبي..أم محمد، يناديها لآخر مرة: يبدو أنى.. أخ ..آآه..لم يكمل جملته ..يضع يده على صدره ..يغور صوته ويسود الصمت.

اجتاح الذهول والرهبة قلب أم محمد..خوف شديد ورعب وإحساس بالوحدة والضياع ..تخر ساجدة..تناجى ربها وتتضرع إليه..تطالبه بشيء ما؟.. تطول سجدتها.. يميل جسدها.. تسقط على جنبها.

على الجانب الآخر من بوابة الخروج.. يفتح أبو محمود سيارة الإسعاف، ليأخذ أخيه بالأحضان بعد معاناة وفراق وغربة ..يكشف الممرض المرافق عن وجه أخيه.. كان جثة هامدة ..وبجانبه جثة أخرى لزوجته أم محمد .. وجهان مبتسمان.

-انتهت-

إلى اللقاء.