منى

قصة واقعية من جزئين

صباح الضامن

[email protected]

في إحدى عمارات العاصمة الكبيرة وفي شقة صغيرة تحت عشرة أدوار , شقة تتألف من غرفة نوم واحدة وصالة وحمام واحد ومطبخ صغير تعيش عائلة أبي عصام .

رجل يسعى لرزقه يوما بيوم ليحضر في آخر النهار قروشا قليلة بالكاد تسد رمق زوجته وولديه التوأم عصام وحسام ..

يعمل فنيا لآلات الطباعة القديمة , عمله تنظيفها فقط من الحبر العالق , هكذا تعلم وهذا فقط ما يحسنه .

قال لزوجته مرة الحمد لله أن لدينا فقط ولدين فإن كانت العائلة كبيرة فمن أين لي أن أطعمها ..

وتصمت أم عصام التي تحب الأولاد كثيرا فثقافتها من والدتها التي توسوس لها في أذنها وقلبها المصغيتين فقط لها :

- إياك يا نائلة أن تسمعي كلامه أغرقيه بالخلفة والأولاد حتى لا يتزوج غيرك .

ويأتي حسام بعد الإثنين رغما عن أب مطحون ويستسلم ويصرخ في زوجته

- فقط هذا لا أريد أولادا .

- الرزق على الله يا رجل

- تؤمنين بهذا , صلي لربك أولا حتى يرزقنا الله .

- كم مرة صليت أنت ؟؟

ويتشاجران على مرأى من الأولاد , وكالعادة تحتضن قهاوي المدينة روح وقلب وجسد أبي عصام الخاوي من أية روحانية , فمع أم كلثوم وإسطواناتها الثملى الملأى بكلام الحب والتمايل ليسمع وهو يسحب أنفاسه من الأرجيلة الشهيرة يسمع ويردد كلام المغنية العجوز :

- هل رأى الحب سكارى مثلنا ........ ويصيح كالثمل من تأثير الحروف والنغم .

ويعود في آخر الليل ليضع رأسه على وسادته على أرض الغرفة يشخر بالحب المزعوم محلقا لسابع ......أرض

وليس سماء

وبعد حسام تأتي منى .........

ويكاد أبي عصام أن يطلقها وتبتسم بمكر

سأتركهم لك لو فعلت ..

ويستسلم وقلبه يشرب نهارا من حبر الطابعات السوداء وليلا من اسوداد الأرجيلة ليذوي جسمه ويضعف يوما بعد يوم .

وتأتيه أم عصام بفكرة لما رأت نحوله وضعفه :

- أخرج حسام وعصام من المدرسة وضعهما عند ميكانيكي ليتعلما الصنعة فيعيناك بالمصروف

- أفضل أمر قلته في حياتك .

وتصك أم عصام على أسنانها وتضمر له شرا فهي تعرف أنه لا يملك ثمن مانع الحمل لتأتي له بلبنى

ولم يعارض واستسلم فقلبه قد مات مع .......أغاني أم كلثوم , وأنفاس الأرجيلة المهولة .

وتمضي الأيام بمرها وفقر الأيام الباردة والأفواه الجائعة تقهر الصبية الجميلة منى فقد كانت تتمتع بقسط وافر من الجمال مما يجعل أخوتها يضربونها لو رأوها في الخارج فالكل يرمقها ويعلق .....

وكيف لفتاة في الخامسة عشر صبية جميلة لا رادع ديني يردع فورة الشباب فيها وحمى المراهقة ,

وبيت بغرفة نوم واحدة وشباب ينامون في الصالة مع أخواتهن

كيف لها أن تضبط تلك الإنفعالات ...

فالأم مطحونة وجل ثقافتها أكل وتمتمات جدة وحديث جارات لأمور نسائية تفتح عيون المراهقات

ولا مدرسة ...... فمن يعتني ببيت وأخت صغيرة ويعين الأم .

لا تتنفس منى إلا إذا خرجت لتشتري حاجيات البيت من البقالة القريبة وبرفقتها أخيها حسام وتجر أختها معها .

تختنق لما ترى الفتيات بحقائبهن غاديات رائحات , يضحكن وهي فقط تمسح وتكنس وتجلس على درج البيت لتراهن يتحدثن عن مغامراتهن , أما هي فمفرداتها فقط عمل البيت وما تسمعه من النسوة من أمور لا تجوز لمراهقة أن تسمعها . وحتى الرفقة لا رفيقة لها فتصبح أحلام اليقظة رفيقتها وكثيرا ما تزجرها أمها لما تراها تحدث نفسها بصوت عال فتهز منى بجمود قاتل كتفيها وتتمتم بكلمات غير مفهومة ....

وفي يوم من الأيام وبينما منى غارقة في حديث مع نفسها ترى رجالا يحملون أباها إلى المنزل .

نهاية الجزء الأول

 

الجزء الثاني

وتهتز منى فقد كان والدها حنونا جدا عليها . فهو يرى قسوة الأم وحرمانها لابنتها من المدرسة ولا يقوى على شيء فضعف جسده وهربه الدائم من الشجار يمنعانه من الدفاع عنها ولكنه في الليل لما يعود يوقظ ابنته ويعطيها قليلا من حلوى او قرط أو إسورة خفيفة يفرح قلبها وهي تغسل قدميه وتقدم له قليلا من طعام .

فما أن رأته هكذا حتى أغمي عليها وارتطم رأسها بحافة السلم ... لتستيقظ على صراخ أم وأخوة لموت الأب .

ولا تبكي .....

وتبقى صامتة طوال أيام العزاء , لا تأكل إلا النزر اليسير , كل ما يمكن أن تتفوه به أحلام بعودة الأب وتمسك صورته في قلبها تضغط عليها تعتصر الحزن قطرات فتزداد ذهولا ......

ويسافر التوأم لإحدى البلدان العربية للعمل هناك وينسيا أهلهما لتبدأ معاناة أخرى في إطعام الأفواه الثلاثة ....

ومنى أكبرهن , تخرج يوما إلى الشارع تقف تسند رأسها المثقل إلى عمود النور قبيل العشاء والبطن خاو ومنظر أمها وأخوتها يحرقان قلبها ... تمر بها سيارة فارهة ويغمز لها صاحبها ويقول لها :

- ما رأيك ببضعة دنانير مقابل مشوار في السيارة .......

ومنظر أخوتها وأمها والجوع , وإيجار البيت بتهديد صاحب العمارة بطردهم في الشارع, وعمها اللئيم الذي لا يتعرف عليهم وأخوالها وجدتها أفقر منهم كل هذه الصور تتابع وتجرها كأنها سلاسل شياطنية تفتح لها باب أمل , ملوث وتعلم فهي ليست غبية , ولكنه الأمل الذي يطعم ويقي من برد قادم فلتدفع نفسها التي لا تملكها الآن وتفقدها ......... مقابل دنانير بسيطة فقد سقط كل شيء فلم تبقى واقفة ....

وتعود البيت بعد ساعات تحمل الطعام , وتصيح بها الأم

- من أين ؟

- وهنا ولأول مرة ترفع منى صوتها

- ستأكلين وتنامين بدون كلام فلا تسألي من أين ؟ فلن أخبرك

- وتحاول الأم وترفض البوح رحمة بأمها رغم ظلمها ......

وتمضي الأيام وتتمرس منى بالدعارة ويصبح لها سعرا مناسبا يعرفه الجميع ويعرف الكل ما تفعل .

وفي يوم من الأيام وبينما هي في بيت أحدهم إذ يدخل عليه مجموعة من الرجال وامرأة يحملون العصي ويضربونه ويضربونها فقد كانوا أهل زوجة هذا الرجل الزاني .

وتنال منى من الضرب المبرح وتأتي ضربة على رأسها تفقدها الوعي ..........

فيحملها الرجال ويرمونها أمام باب مستشفى ويفرون .......

ولم تكن منى تحمل في حقيبتها أية هوية تدل عليها فأشفق الممرضو ن عليها وأسعفوها , ولما استفاقت كانت قد أصيبت بلوثة وصارت تضحك وتبكي في آن واحد فطلبوا لها مستشفى الأمراض العقلية لتبقى هناك شهرا كاملا لا يعرفها أحد ولا يزورها أحد وهي تعي من هي ولكنها تصمت وتتحين الفرصة للهرب .

حتى هربت منها .......... وقادتها قدماها العاريتان لشارع غريب لا تعرفه .

وقفت منى والمطر يغطي روحها وتعانق دمعها مع قطرات ربانية وأخذت تبكي وتبكي وتضرب برأسها على جدار قريب وتنادي أبيها .....ولأول مرة أخذت تقول ........ يارب , يارب , يارب

وإذا بشاب وأمه يقفان بقربها بسيارتهما ويطلبان منها الصعود

استسلمت منى وركبت , أخذتها أم عمار وعمار لبيتهما , وصنعت لها الحاجة الطيبة حساء وأخذت تسألها :

- من أنت يا بنية ؟

- ونظرت منى لها قائلة , منى

- لم أنت بالشارع سمعناك تنادي يارب ما الأمر ؟

- خشيت منى أن تخبر الحاجة فتطردها

ولكن شيئا ما جعلها تتكلم بانطلاق وكأن عقال الحروف أفلت ووجه الطيبة الحاجة أم عمار جعلها تصدق , وقصت عليها كل القصة وقالت لها :

- كنت سأكذب عليك ولكني عشت حياتي كلها خطأ وكذب ولا أريد أن أستمر , تعبت تعبت ياليتني أموت فأرتاح .. يا ليتني أموت .

- وضمت أم عمار الصبية الجميلة لصدرها وقالت لها :

- بنيتي صدقك هذا أفرح قلبي وهو بداية توبتك ,

كان بإمكانك الكذب ولكن الله سمعك وأنت تناديه فأطلق لسانك بالحق وغسل قلبك بمطر الصدق فنبت فيه ألف زهر فلا تخافي لن أتركك ..... وستعيشين معززة مكرمة كباقي الناس .

وهنا نادى عمار أمه وقال لأمه دعيها تنام أمي وترتاح . سأذهب للنوم عند خالي لترتاحوا وبعد صلاة الفجر سآتي لكما .

وخرج عمار ليعود فعلا بعد صلاة الفجر ومعه خاله قاضي المحكمة الشرعية وقد أخبره بقصة الفتاة فقدم الخال الشيخ الجليل مع ابن أخته إمام جامع الحي ..

وعند الفجر أيقظت الحاجة أم عمار منى لتصلي معها فقالت لها منى بخجل :

- ولكني لا اعرف الصلاة .....

- ابتسمت الحاجة وقالت سأعلمك يا ابنتي

- ولأول مرة تصلي منى وإذا بها على سجادة الصلاة تبكي وتبكي حتى كاد أن يغمى عليها فأخذت تشهق قائلة :

- يا الله كم أشعر بالدنس , بالإثم يا ألله كيف سيغفر لي الله .كيف ؟؟؟؟؟؟؟؟

- لا تخافي يا ابنتي لا تخافي إن الله لفرح الآن بتوبتك

وسترين كيف سيفتح لك أبواب رحمته ,, ورزقه

- آه وأهلي من يطعمهم لا أدري ما حل بهم وحتى لا أعرف كم لبثت في المستشفى فقد كنت متذكرة كل أمر ولكني كنت أشعر ساعات بأني أريد أن أهرب , أهرب أو أموت

- لا تبتئسي ومن يتق الله يجعل له مخرجا .....

- هل سيغفر الله لي , وكيف وقد كنت أعمل الموبقات ., كيف كيف ؟

- توبي إلى الله قال القاضي الجليل وقد سمع مقولتها :

من الآن أنت فتاة جديدة ولدت على يد الحاجة أم عمار

وهنا ألقت منى نفسها عند قدمي أم عمار وأخذت تبكي أريد أن أتطهر , أريد أن أنجو , لا أريد تلك الحياة بالله عليك ساعديني

- سأفعل ولكن قبل ذلك عليك أن تعودي لأهلك وتطمأنيهم عنك

- لن أعود قبل أن أحضر لهم أول قرش حلال وأطعمهم حلالا ....

- ابتسمت أم عمار الطيبة وقالت لها ما ذا تتقنين من العمل ؟

- لا أتقن إلا أعمال البيت

- ما رأيك أن تعملي عندي تساعديني في شؤون البيت

- سأفعل , سأخدمك بعيوني فقط لا أعود لما كنت له

ويبتسم عمار .......

ولكن يهمس القاضي للشاب الأعزب قائلا

- لا يا بني لا يجوز أن تبقى الفتاة هنا وأنت أعزب وهي جميلة حتى لو كان وصفها خادمة .

وهنا يقول الشاب لخاله , أتزوجها إذا ؟؟؟

ويسارع القاضي قائلا :

أو ترضى أن تتزوج فتاة كانت تمارس الدعارة يا بني

- إذا كان هذا ينقذها مما فيه ويعينها على بلوغ الحق والهداية فلم لا ؟ إن الله غفور رحيم أو سنظل نجلدها وهي التائبة ؟

- سمعت يا بني أن من تمارس الدعارة فقط تأتي بأمراض أو ربما تتوق لتلك الحياة

- سأفحصها عند طبيب وإن كانت بحاجة لعلاج سأقف بجانبها ولن أتخلى عنها لن أرميها للشارع وأكون عونا للشيطان عليها , أريد هدايتها على يدي حتى يرضى الله عني .

- هذا اختيارك وتحتاج لرأي أمك أيضا

- والأم الطيبة وافقت الإمام التقي على كل حرف وتم له ما أراد

أما منى التي فاتحتها أم عمار بالأمر كادت أن تموت من فرحة أو دهشة أو عدم تصديق فقالت للحاجة الطيبة

- أوترضين أن تزوجيني بابنك وقد سمعت عني كل هذا ؟

- لأنك صادقة التوبة والله يغفر أفلا نسامح نحن .....

- يا ألله أنتم ملائكة

- لا نحن بشر نسعى لرضى الله , احفظيها هذه يا ابنتي من يتق الله يجعل له مخرجا والله أشد فرحا بتوبة عبده إنه التواب الرحيم

- وبقيت منى تبكي وتبكي وتحضن أم عمار

وتم الزواج لتعود إلى بيت أمها التي أخذت تعمل في البيوت لتطعم أولادها وتحافظ على سكنها , تعود منى ومعها زوجها عمار والطيبة الحاجة وتحكي لأمها التي لم تصدق ما رأت لتعلم أنها كانت بعيدة عن الله فأضناها البعد وأتلف روحها ......

وابتدأت مع ابنتها في تلقي ألف باء الخير من فم الحاجة والإمام الشاب , لتشرق الشمس من جديد على عائلة نجت وأرواح تطهرت بعد أن كانت بالوحل

تمت بحمد الله

جزء كبير من هذه القصة واقعي