حكاية يوسف
أين الوطن
حكاية يوسف
د . محمد إقبال صالح
جاءنا يوسف في مساء يوم جميلٍ ، في الثالث من (فبراير) شباط عام 2002 في فلوريدا ، كانت ولادته قصيرة ، سريعة ، بكى قليلاً كما يفعلُ كل القادمين إلى هذه الأرض العجيبة الغريبة ، ثم استرخى ونام هادئاً مطمئناً ، في عالمه الجديد.
مع ولادته : سجل فريق فلوريدا هدف النصر ليفوز ببطولة الولايات ، كان هدفاً رائعاً ، وذكرى طيبة .
أخذناه إلى الدار في صباح اليوم التالي صحيحاً معافىً سعيداً ، فنما وترعرع دون عناء أو صعوبات تذكر، كانت طبيبته تقول لأمه :
ـ ما أجمله ! وما أصحَّه ! ليس لدي ما أنصح به له ، إنه آيةٌ للصحة ... عيناه ، قلبه ، رئتاه ، كله جميل .. دعيه كما هو ، إنه لا يريد شيئاً أبداً .
كان سهل الإرضاع ، كثيرالابتسام ، حريصاً على إسعاد من حوله ، كان حصيفاً بشكل طبيعي ، ماهراً بالتعامل مع من حوله أحباءَ وأصدقاءَ وهم كثيرون ..
كان يحب السكاكر والدجاج المقلي والكاتشب والمعكرونة الناصعة البيضاء . كان لا يمكنه أن يأكل شيئاً فيه أي إضافات مهما حاول ذلك من أجل إرضائنا .
أحب الكرتون ، وولع بالتلفزيون ، ثم أعجب بألعاب الكمبيوتر، ثم بدأ يتعلق بالرجل العنكبوت وما يتعلق به من صور وألعاب ، حتى أن والدته اشترت لسريره أغطية عليها صور الرجل العنكبوتي ، محاولة لجعله يحب سريره فينام فيه مسروراً ، ذاك السرير الذي لم يحبه أبداً ، بل استمر بالنوم هنا وهناك في غرف إخوته وأبويه كلما سنحت الظروف له بذلك ؛ كان يتصرف أحياناً كأنه ضيف عابر...
بدأ يذهب إلى المدرسة مع أمه ، فأحبه الجميع وأحبهم ، وبسرعة فائقة أصبح له أصحاب وأصدقاء ؛ كل ذلك بدا طبيعياً لطفل في سنه ، مثله مثل كلِّ الأطفال المدللين في حيِّنا ..
تميز يوسف عن أترابه بقدرته على منح مزيد من المودة لمن حوله ، وقد تنامى طيف حبه بين الناس بكل بساطة ، في نفس الآن : كان لا يستطيع أن يكره أحداً أو يشكو من أحدٍ ؛ حين كنت أسأله :
ـ من صديقك المقرب ؟
كان يفكر قليلاً ثم يجيب مبتسماً :
ـ الجميع أصدقائي يا بابا أنا أحبهم جميعاً .
وعندما سألته مدرِّسته عن لونه المفضل ، بدأ بتعداد الألوان ثم قال لها :
ـ هل تدرين ؟ إنني أحب كل الألوان ..
سألتُه مؤخراً ماذا يريد أن يكون عندما يكبر ؟ فأجاب بلهجة مازحة :
ـ أريد أن أكون جراح أعصاب وطبيب أسنان .
قلت :
ـ لماذا كل ذلك ؟
فأجابني بسرعة :
ـ إنهما قريبان من بعضهما البعض .
كنت موقناً في نفسي أنه سيكون موفقاً لأي شيء يريده في المستقبل ..
أصرَّ مرة على شراء قطة ، وافقنا على مضض رغبة في إسعاده . ذهبنا إلى حيث يتبنى الناس قططاً كانت مهملة من أصحابها مقابل ثمن بخسٍ ، أصرَّ يوسف على اختيار قطة سوداء هزيلة مسكينة ؛ كأنه رغب بمساعدتها ورعايتها ، أخذناها إلى الدار فركضت مذعورة إلى ركن قصي واختبأت فيه ، وجلس يوسف قريباً منها يحاول تطمينها واستئلافها ثم تركها حائراً في أمرها ، قلت له :
ـ اصبر لابد لها من أيام لتعتاد عليك وعلى الوطن الجديد .
فقبل ذلك مقتنعاً راضياً رغم تلهفه للعب مع قطته السوداء ..
في الصباح لم يجد القطة ، وبعد بحث طويل عنها ظننا أنها غادرت البيت ، قلت ليوسف :
ـ لا تحزن يا حبيبي سآتيك بقطة أخرى كبيرة ، جميلة ، قريباً ، ربما اليوم .
ذهبت إلى عيادتي فدهشت حين كانت أول مريضة شاهدتها هي سيدة تعمل في هيئة رعاية الحيوانات الضالة ؛ حكيت لها قصة يوسف وقطته الضائعة ؛ قالت ضاحكة :
ـ لا بأس سيجدها مختبئة في مكان آمن ، على أي حال فإن عندي قطة جميلة مدربة مقلمة الأظافر.
قلت شاكراً :
ـ إيتيني بها مع نهاية الدوام .
ففعلت ، وهرعت إلى يوسف مستبشراً بالقطة الجميلة الملونة ؛ فسايرني قائلاً :
ـ إنها كبيرة ، لكن يا بابا يجب أن نجد القطة الصغيرة .
قلت :
ـ طبعاً ، سنتابع البحث .
عجبت لأمر يوسف كان لا يزال حريصاً على القطة المسكينة ..
بعد أيام وجدنا ليوسف قطته المسكينة ، وأصبح في دارنا قطتان ؛ واحدة أنيقة أليفة والأخرى ضعيفة خائفة تختفي في أماكن غريبة في الدار، نكتشفها حين تجوع . لم يرق ذلك ليوسف وظل يحاول تطمين القطة الخائفة دون فائدة . للأسف ظهرت علامات الحساسية على وجه يوسف وعينيه ؛ فأخرجنا القطط إلى الحديقة حماية له مما أفقده الاهتمام بالمشروع كله ، وبقي يراقبنا نطعم وننظف ونعتني بقططه من بعيد .
حين كثرت ألعابه وكتبه ، بنينا له رفاً وصندوقاً كبيراً لتجميع تلك الألعاب والكتب في مكان واحد ، وقد كان ذلك من دواعي سروره وفخره بزاويته المفضلة ، مشاركاً بها الأصدقاء والأقرباء . كان كثيراً ما يفرغ الصندوق من الألعاب ويستخدم جوفه الواسع للاختباء واللعب مع أولاد خالته : مريم وزكريا ؛ اللذين كانا من أقرب الناس إلى قلبه .
مريم ويوسف
سمعت مريم مرة تقول ليوسف :
ـ يوسف لقد نظرت إليك في المدرسة وابتسمت لكنك لم تبتسم لي بالمقابل .
فأجاب مترنحاً في وقفته :
ـ بلى لقد ابتسمت لك ولكنك لم تنتبهي ، بلى بلى لقد فعلت ..
كان حديثهما عسلاً خالصاً ..
أحببت يوسف من رأسه إلى أخمص قدميه ، أحببت فيه كل شيء واستعذبت منه كل شيء .
أحببت صياحه وبكاءه ، ابتسامته وتقطيبه ، وشغفت بكل حركاته وسكناته .. كنت أتوق دوماً لرؤيته ، لقد كانت روحي معلقة بروحه ؛ لم أعلم سرَّ ذلك إلا الآن .
اصطحبته في آخر حلاقةٍ لشعره ؛ جلس كرجل صغير عاقل هادئ وخرج جميلاً أنيقاً شاكراً الحلاقَ المعجبَ المتأمل ؛ أتمنى لو احتفظت ببعض من شعره الناعم يوم ذاك ..
شهدت معه مباراة الهوكي ، فكان مؤنساً فرحاً مستغرباً كثرة الضجيج والعجيج ؛ لكنه استمتع وأمتع من حوله بفرحه ومرحه . حين خرجنا من الملعب ، كان المكان مزدحماً والمشي صعباً ، فراح ينظر إلي خجلاً كي أحمله ، فأفعل ثم يقول :
ـ سأمشي وحدي .
ثم يعود فينظر إلي مستعطفاً دون كلام فأحمله، وهكذا حتى وصلنا السيارة ؛ فبادرني بحماس قائلاً :
ـ شكراً بابا لقد كان ذلك جميلاً ممتعاً .
حين بلغ الرابعة من عمره ، أصبحت لعبتنا المفضلة سجْع الكلمات وتناغمها ؛ حين أصبحت لديه القدرة على تنسيق وتنغيم ثم غناء جمل بأكملها ؛ لقد رأيت فيه شاعراً بارعاً مبشراً بمستقبل وضيء .. لقد كانت صحبة يوسف مؤنسة ممتعة مريحة في جميع الأحوال ..
قبل أسابيع ، اشترت له أمه عدة صيد السمك وذهبت به وإخوته إلى جانب البحر حيث يصطاد الناس ؛ جاءني بعدها صائحاً :
ـ بابا لقد اصطدت سمكة كبيرة ، انظر.. انظر.. لقد كنت الوحيد الذي خرج بسمكة ، كل الناس كانوا سعداء بذلك .
احتضنته مباركاً محتفلاً ، لقد كانت سمكة جميلة كبيرة ، وضعتها أنا ويوسف بعناية في الثلاجة ، لقد كان يوماً رائعاً بيوسف المبتهج ، يحدث الجميع عن رحلة صيده الموفقة .. ما تزال السمكة في الثلاجة ؛ لا أدري ما أصنع بها .. لقد كانت أول وآخر سمكة يصطادها يوسف ..
عالم الماء :
أحب يوسف الماء وخشيه في الوقت نفسه ؛ وكان أكثر ما أحب هو البحر وشواطئه وأمواجه ، غير أنه بقي دوماً شديد الحذر من، ولكننا عالجنا حذره خوفه منه ، حتى ظنناه صار يألف الماء ، ولا يخاف منه .
كنا في متنزَّه مرة ، ودفعت يوسف إلى حوض ماء صغير، فنزل مسايراً وأنا أراقبه وأشجعه ، ثم التفتُّ للحظة فلم أجده ، ركضت فوجدت رجلاً ينتشله من قعر الماء ..
كان يبكي بشدة خائفاً متضايقاً ، شكرت الرجل وأخذته من يده ثم حملته ، فوضع رأسه على كتفي قائلاً :
ـ لماذا لم تكن تتابعني ؟ لقد تركت متابعتي ..
قلت له :
ـ يا حبيبي لقد كنت بجوارك وكان الماء لركبتيك فقط .
قال :
ـ لقد خفت كثيراً وانزلقت إلى القاع ...
في مرة أخرى ؛ جاءني إلى داخل الدار صائحاً :
ـ بابا .. بابا .. لقد خرجت من الماء بنفسي ، لقد انزلقت لكني لم أخف ، مشيت وخرجت بنفسي .. أنا أستطيع الخروج بنفسي الآن ..
فاحتضنته مسروراً ، وشكرت الله حامداً .
في المرة الخاصة المختارة ؛ لم أكن بجواره ، تركه أخوه لدقائق قليلة ، ليجده في قاع حوض السباحة ؛ لقد كان ذلك القدر المكتوب ..
في الساعات الأخيرة :
نام يوسف ليلة الخميس في غرفة أخيه ، وجئت كعادتي لتوديعه قبل النوم ، فوجدته ملتفاً بشكل غريب محكم بغطاء أبيض لا يظهر منه سوى وجهه الجميل .. لم يكن ذلك من عادته ، نظرت إليه مستغرباً ، وظل يحدق في وجهي ؛ لعله كان يريد أن يقول شيئاً غيبياً ..
لو كنت أعلم الغيب لانتشلته من سريره ، وركضت به إلى جبل بعيد ، ضارعاً إلى الخلاق أن يأخذني مكانه ؛ فلعله بطفولته سيكون أصبر على فراقي من صبري على فراقه ...
يوم الخميس ، جئت إلى البيت ، وكعادتي صحت :
ـ السلام عليكم ، أين يوسف ؟
فأجاب يوسف كعادته :
ـ هيه بابا ..
جئت لاحتضانه ، أدار ظهره وطأطأ رأسه ومضى ، عرفت أنه يريد شيئاً خاصاً ، سألته ماشياً وراءه :
ـ ماذا تريد يا حبيبي ؟
قال :
ـ أريد أن يأتي صديقي أمين ليلعب معي في الدار.
قلت له :
ـ ليس الآن .
فجرى إلى الطابق الأسفل شاكياً إلى أمه :
ـ أريد أميناً .
عندها تداركت قائلاً :
ـ لا بأس .. سوف يأتي أمين بعد السابعة ، بعد أن أعود إلى المشفى .
ما كنت أحب أن يشاركني أحد في صحبة يوسف ..
لم يعجبه ذلك ، وظل يحاور أمه حتى اتصلت بأم أمين لتقول لها : إن أميناً خرج إلى الحديقة ، فقال يوسف :
ـ إذن أريد أن يزورني عمر ؛ اتصلي بعمر (ابن خالته) .
ردت أم عمر قائلة :
ـ إنه نائم .
فقال لها يوسف بكل وضوح :
ـ دعيه يتصل بي حين يصحو ..
وأعاد التلفون لأمه منزعجاً ، ثم حاول أن يأكل موزة قدمتها له أمه ، فأكل لقيمات صغيرة ثم تركها كعادته حين رأى فيها بضع نقاط سوداء ، ثم جاء فجلس إلى جانبي ، فوضعته في حضني ، وغنيت له وضممته وعصرته ، وهو صامت متضايق .. ثم تركني وعاد إلى جانب أمه ، قلت :
ـ لا بأس سأسمح لك بقليل من الكرتون .
لم يأبه لعرضي ، بل لأول مرة أراه يدير ظهره للتلفزيون وهو ينظر إلى أمه متسائلاً كيف يستطيع أن يلقى أصدقاءه .
سألته :
ـ ما بك اليوم يا حبيبي ؟ غداً سآخذك إلى البحر ؛ دعني أذهب الآن إلى العمل وأعود فنلعب معاً أكثر وأكثر..
قال جازماًُ :
ـ لا ، الآن نذهب إلى البحر.
قلت :
ـ لقد تأخر الوقت .
ودعته وذهبت بصدرٍ متضايق ، خاصة أن نظراته نحوي كانت صامتة غريبة غير مألوفة ..
ذهبت إلى العمل مرغماً ، قلت لنفسي : سأنهي زيارة المستشفى ، ثم أعود إليه متفرِّغاً لصحبته ، وقد كنت فرغت الأيام الثلاثة القادمة للأسرة ، وله خاصة .
عدت إلى البيت بعد ساعة وأربعين دقيقة ، لأجد سيارات البوليس أمام المنزل ، وابني أحمد جالساً على حافة السيارة بوجه حزين متألم علمت حينها أنه يوسف ..
أحسست بنار في صدري ، وفراغ في قلبي ؛ سألت بحزن شديد لم أشعر به في حياتي :
ـ ماذا حصل ؟
قيل لي :
ـ لقد وجدنا ابنك في المسبح غريقاً .
ركضت إلى أحمد صائحاً :
ـ ماذا حصل ؟
قال :
ـ وجدته في قعر المسبح ؛ أخرجته بسرعة ثم حاولنا أنا وماما إعادته للتنفس دون جدوى ، إنه في طريقه إلى المستشفى مع ماما ...
قال رجل البوليس المؤدب :
ـ تعال اركب معي يا سيدي .
ركبت معه واتصلت بزوجتي :
ـ ماذا حصل ؟
قالت :
ـ لا أدري ...
كان صوتها محتداً ، متألماً ..
قلت :
ـ هل وضعوه على جهاز التنفس ؟
قالت :
ـ لا أدري .. لا أدري ...
وصلت إلى المستشفى ، استغرق الطريق خمس عشرة دقيقة طويلة طويلة .. كانت هذه نفس المستشفى التي ولد فيها يوسف ؛ لقد عاد من حيث أتى وبكل بساطة كعادته في سائر الأمور..
وضعونا بعدها في غرفة صغيرة قرب الإسعاف دون علم أو خبر.. ثم جاءت طبيبة الأطفال صائحة بصوت حزين :
ـ أنا آسفة ، أنا آسفة ؛ لم نستطع إثارة قلبه أبداً ، رغم كل محاولاتنا وأدويتنا ، أنا آسفة ..
قلت :
ـ لا.. لا.. أرجوك .. أرجوك .. خذيني إليه ..
ذهبت إليه .. ذهبت إلى يوسف ...
وجدته محاطاً بطاقم الإنقاذ . وكان هناك ممرض لا يزال يضغط على صدر يوسف محاولاً أو متمنياً أن لا يكون آخر من يرفع يده عن الصدر الصغير..
اقتربت من يوسف وبدأت بتقبيل قدميه الباردتين ، ثم قلت للممرض :
ـ دعه .. دعه .. أرجوك ...
ورحت أطوف بقبلاتي على أنحاء جسده الغض الطري البارد .. كنت أبحث عن بقعة ساخنة فيها حياة دون جدوى ..
كان يوسف نائماً كملاك جميل .. لا يدرك لماذا كل هذا الضجيج حوله ؟ كان في عالم السموات .. هادئاً ، مطمئناً ، آمناً ...
وبدأوا بإزاحة الأنابيب المدَلاَّة من كل مكان ، ثم غادروا الغرفة بهدوء ، أغلقوا الباب ، أرخوا الستائر، وتركوني وحدي مع حبيبي الصغير..
لقد أُسدل الستار على حياة قصيرة ، لحبيب صغير، ملأ حياتي أنساً .. قبلت كل ناحية في جسده ، تلمست كل زاوية فيه مرة ومرة ، قبلت عينيه الصافيتين الصامتتين ، أمسكت كفيه الناعمتين وهو ساكن آمن غارق في نومه العميق ..
جاءت الطبيبة ثانية تعتذر أشد الاعتذار، سائلة إن كانت تستطيع أن تقدم لنا شيئاً !
نظرت إليها دون جواب ، قالت :
ـ اجلس واحتضنه .
ففعلت ، ضممته ، واعتصرته ، وأرجحته قائلاً :
ـ يا حبيبي ، يا بابا ، يا عيوني ، يا بابا .. لماذا التعجل يا حبيبي ؟ مستعجلٌ حبيبي مستعجل !!
ظللت على هذه الحال قرابة الساعة ، ثم وضعته على السرير: حامداً ربي .. وتركت الغرفة لأمه وإخوته .. ثم عدت فاحتضنته .. ثم غادرت .. ثم عدت .. لقد كنت ملتاعاً .. متألماً .. لا أدري ماذا أصنع ...
أما أمه فودعته بدموع صامتة مستسلمة ؛ لقد ربط الله على قلبها ومنحها سكينة عجيبة ؛ كانت تقول لمن حولها :
ـ لقد أسلمته لخالقه وأنا راضية بحكمه ..
أما إخوة يوسف فقد كانوا كالضائع في عالم غريب ؛ يطوفون حول يوسف لا يدرون ما يصنعون أو يقولون ، قبلوه ، ضموه ، غطوه ، كشفوه ، حركوا يديه ورجليه ، ربما ظنوا أنه ما يزال نائماً .. استمروا على ذلك سويعات طويلة ، ثم استسلموا حامدين ,.
وبدأ الأحباب يتوافدون .. وغصّت بهم غرفة الانتظار، وغرفة الإسعاف ، جاؤوا من كل حدب وصوب .. لم أدر مدى حب الناس ليوسف إلا ذلك اليوم ؛ لقد كانت فيه روح عجيبةٌ تناغمت مع أرواح الكثيرين .. وبكى الجميع .. وبكينا معهم .. حتى إني اضطررت أحياناً للتخفيف عن بعضهم ..
لقد ترك يوسف وراءه يتامى كثراً على هذه الأرض الحزينة ...
لم يسمحوا لي بأخذه إلى البيت ، قالوا :
ـ لابد من فحصه أولاً .
فرضيت على مضض ، وذهبت إلى الدار، الدار فارغة من صوت يوسف وروح يوسف ..
لم نستطع النوم .. قمنا مبكرين على هواتف الناس .. الأهل والأحباب من كل مكان .. وتحولت الدار إلى حديقة من الورود والأزهار..
جاء الجيران من أماكن شتى ؛ كلهم يعتذر لفقدان يوسف " كعادتهم في تلك البلاد " كلهم يعرض خدماته ، بعضهم روى حكايات مؤلمة مشابهة " وكثير ما هو منها " محاولين التخفيف والمشاركة بالحزن.
جارنا المسن المقيم مقابل دارنا أرسل زوجته الباكية ؛ قالت :
ـ إن زوجي لا يستطيع الكلام إنه حزين جداً ، لقد كان يجتمع بيوسف كل يوم في الحديقة ؛ يحاوره ويؤانسه ، إننا سنفتقد ذلك الصديق الصغير كثيراً ..
عجبت ليوسف ماذا صنع بأهل الأرض ..
الوداع الأخير :
اتصلوا بي من المستشفى قائلين :
ـ تستطيع أخذه الآن .
ذهب الأحباب فأخذوه إلى المسجد غسلوه ، وكفنوه ، ثم سمحوا لي بلقائه ثانية . ذهبت فرأيته في ثوبه الأبيض مبتسماً ، هانئاً على جنبه الأيمن ؛ أقسم بالله بأن ابتسامته انفرجت قليلاً حين نظرت إليه .. شعرت بمزيد من الرضى ، قبلته وقلت له :
ـ إلى اللقاء يا حبيبي .
ثم تركته مع أصحابه وأحبابه الملتفين حوله مودعين .. خرج المئات إلى المقبرة .. قالوا لي قبل إنزاله إلى روضته الصغيرة :
ـ اقترب .
نظرت إلى يوسف : ما يزال نائماً مبتسماً ، رأيت بعض السائل على حافة فمه ، فبادرت لمسحه دون شعور، ثم قبلته مودعاً للمرة الأخيرة .. قالوا :
ـ ضع بعض التراب عليه .
فقبلت متردداً ، وضعت بعض التراب على حواف التابوت الصغير، وتراجعت مبتعداً متفرجاً .
دفن يوسف بين رجل صالح طيب السمعة عن اليمين ، وامرأة كانت معروفة بالصلاح عن الشمال ، لقد غبطت كليهما على جارهما الجديد ..
وتدافع الناس يهيلون على حبيبي التراب ، وأنا أنظر متأملاً كمن يعيش حلماً مضنياً ، كان يوم الجمعة عيداً حزيناً .
عانقني مئات الناس : بعضهم بكى معي ، بعضهم وعظني ، بعضهم دعا لي ، بعضهم تجنب الكلام إليّ واحتضنني ولم يستطع أن يفلتني .. لقد بكى بعضهم كل أحزانه وآلامه على كتفي ، وارتاح كالطفل الصغير، ثم وقف بعيداً يجهش بمزيد من البكاء ..
حمداً لله على يوسف ... كان زائراً كريماً ، غادر ديارنا ليملأ قلوبنا رضىً ورحمةً ..
العالم الجديد :
بعد انتهاء مراسيم الدفن عدنا إلى المنزل الخالي إلا من الذكريات والأطياف ، وكثيرٍ من الورود والأزهار والروائح الزكية ..
وبدأت أطوف في المنزل زائراً مواضع لعب يوسف وجلوسه في أنحاء الدار، بدأت بغرفته أجمع أغطيته وألعابه ؛ أنقلها من مكان إلى آخر أشمها وأقلبها وأقبلها ..
أخذت قميصه المفضل لدي ، قبلته ، عطرته ثم وضعته بين قمصاني مستأنساً به إلى حين ..
ثم نزلت إلى الطابق الأول أتحسس مواطئ أقدامه وآثار كفيه : كنت كأني أنتظر سماع صوته الساحر ينادي بدلال : هيه بابا أنا هنا .. ثم ذهبت إلى غرفة ألعابه وكتبه ؛ أتصفح قصته المفضلة ؛ حكاية مجموعة من الحيوانات كتبت بالعربية كان يروق له أن أقرأها له فيترجم معانيها بدقة متباهياً بمعرفته . ثم خرجت إلى الحديقة أمام الدار حيث كان يوسف يجري حافي القدمين صائحاً :
ـ انظر يا بابا كم أنا سريع .
نعم لقد كان حبيبي سريعاً حقاً ، كان يداعب الجيران مسلماً محاوراً ، لقد ملأ الحي أنساً بسيطاً ..
عدت ثانية إلى الدار، تجرأت وخرجت إلى حيث حوض السباحة ، نظرت إلى الماء الساكن الهادئ ، حدقت ملياً في أعماقه ، رأيت في ذاك الماء حوتاً أزرق ابتلع يوسف ، وعبر به جداراً مائياً رقيقاً إلى عالم جديد ، تصورته يعبر الجدار متألماً حائراً جزعاً ، ثم خلال دقائق معدودات ، مرتاحاً مطمئناً : مخاض جديد إلى عالم فسيح ..
تجولت حول حوض السباحة ، وجدت بقايا بالونات ملونة متناثرة في كل مكان ، واحد منها كان يترجح على حافة الماء ، انتشلته واعتصرته بحنان ؛ لعله كان آخر ما لامست يد حبيبي .. تجرأت وسألت ابني أحمد :
ـ هل كان يوسف سعيداً فرحاً حين تركته ؟
أجاب :
ـ نعم نعم ؛ لقد كنا نتراشق بالبالونات المائية وكان جدّ مبتهج ، بعد ذلك أدخلته إلى الدار وصعدت إلى غرفتي ، وبعد دقائق شعرت بهدوء عجيب في البيت ، هدوء لم أشعر به من قبل أبداً ؛ هرعت نازلاً على الدرج صائحاً : يوسف يوسف !! أين أنت يا يوسف ؟ حين لم يجبني ؛ اندفعت إلى الخارج وكان ما كان بعد ذلك .
كيف حالك يا حبيبي ، كيف حالك يا حبيبي ، هو مطلع أنشودة كنت قد بدأتها قبل رحيله بزمن ، وبدأت أدندن بها صباح مساء دون أدري من أين جاء هذا الكلام ولماذا ، غير مستطيع إضافة أي شيء آخر له ... ثم اكتملت الأنشودة بعد الرحيل :
والسموات تنادي تطلب الودَّ حبيبي ...
روحك البشرى تسامت = ما لقلبي في النحيب يا حبيبي ..
إن سألت اليوم عني = إنني أحصي ذنوبي
أطلب الرحمن عفواً = إنه خير مجيبِ
في رحاب الروض صفواً = ألتقيك يا حبيبي ..
في ظلال الروض شدواً = نجمع الشمل حبيبي ..
أعرف أنني لم أكن لأغيّر ما حصل ، لكنني كنت أتمنى لو قضيت وقتاً أطول مع يوسف بعيداً عن التلفزيون " كما كانت أمه تنصح دوماً " ، تمنيت لو أمضيت وقتاً أثمن في خدمته : مساعداً أمه المتبتلة لرعايته : في نومه ، وطعامه ، وشرابه ، ونظافته ، وتعليمه ، ووضعه في سريره : كم تمنيت لو شاركتها في كل لحظة من رعايته ، فقد كانت تستمتع بذلك كثيراً ، معبرة عن ذلك بقولها لي كل يوم :
ـ إن ابنك لطيف ، مؤنس ..
تمنيت لو لبيت كل رغباته التي كان يطلبها بأدب ولطف ؛ بابا : أريد هذا وذاك ، هل نستطيع أن نذهب هنا وهناك ؟؟ وكما هي عادة الإنسان الطامع دوماً بدوام الصحة وطول البقاء ؛ التسويف والوعود ..
قبل رحيل يوسف بيوم قال لأمه :
ـ سمعت أنني في الجنة أستطيع أن آخذ ما أشاء ، وأفعل ما أشاء ...
قالت له مستغربة :
ـ هذا صحيح .
فأجابها كعادته :
ـ " هل تدرين يا ماما " غداً سترتدين ثوباً وردياً وسيكون يوماً مثالياً ..
قبل رحيل يوسف بشهور بدأ يلحّ علي الحنين للوطن ، وبدأت أسأل الناس من حولي :
ـ ماذا يعني الوطن ؟ وأين هو فعلاً وطن الإنسان ؟ هل هو مكان ولادته أم مكان ولادة اولاده ؟ هل هو حيث دفن أجداده أم حيث سيولد أحفاده ؟؟
بعد رحيل يوسف أصبح السؤال هو :
هل الوطن حيث يواري المرء حبيبه الصغير؟.. أم الوطن هو تلك البقعة الترابية أنى تكون في أرض الله ؛ البقعة الصغيرة التي يدفن بها المرء قريباً من أحبابه ..
بعد رحيل يوسف ، قفز اثنان من أصدقائه في حوض السباحة ؛ كانا يريدان اللحاق به في الروض ، الوطن الجديد ؛ الأمهات وقعن في خوف وحيرة ..
جاءني صديقي أبو ليث بعد رحيل يوسف بأيام قائلاً :
ـ لقد رأى ابني بلالٌ يوسفَ في المنام قادماً عبر السحاب يتضاحك قائلاً :
ـ لماذا الحزن ؟ أنا مسرور، أنا سعيد .. كن مثلي فرحاً مسروراً .
وصحا بلال من نومه ليخبر أهله برؤياه ، وعادت لبلال ابتسامته المعتادة .
في حينا ، الهادئ جداً هذه الأيام ، وافق مجلس الحكومة المحلية على إنشاء حديقة صغيرة ضمن الحديقة الكبيرة تحت اسم : حديقة الفراشات ؛ سيزرعون بها نباتات وشجيرات خاصة تجذب بعطرها وأزهارها الفراش والطيور، في داخل الحديقة مقعد للجلوس والتأمل ، سيكتب على المقعد : هنا كان يلعب يوسف ، إنه الآن في جنان ربه فرحاً حراً طليقاً .. لقد غادر هذه الأرض عن عمر ناهز الرابعة والنصف من السنين ..
يراودني أهل الأرض عن ذكرى يوسف وتذكاره ؛ لقد مضى إلى جوار ربه ؛ وأقول : إني مؤمن مسلم بذلك ، لكن ذكراه أصبحت جزءاً من حياتي ، لعلها تتحول مع الوقت إلى ذكرى مؤنسة مطمئنة ؛ لقد أصبح لي حبيباً صغيراً في السماء ..
أتى عيد ميلاد يوسف الخامس دون يوسف ؛ احتفلت به بدموع الأرض ، واحتفل أهل السماء به في روض البقاء ، وتساءلت في نفسي الضعيفة : تراه ماذا يفعل الآن مع أصحابه الجدد ؟؟ في نفس اليوم الجميل كان فرح جميل ؛ زواج ابنة أختي " رزان " برجل طيب من بلاد الشام ؛ قال لي حمزة (الرجل الطيب الذي أحب يوسف كثيراً ) :
ـ لقد رأيت في المنام أنني رزقت صبياً جميلاً أسميته يوسف ؛ فهو شديد الشبه به ، بل هو يوسف نفسه ..
قلت : سأنتظر متلهفاً لقاءه من جديد .
في النهار، ما يزال طيف يوسف في الدروب والقلوب ، ما يزال صوته الحنون الودود في المسامع والجوارح في كل مكان ، زيارة قبره تجلب الطمأنينة في معظم الأحيان ، ومع مرور الوقت ازداد عدد جيرانه من الأحباب والأصحاب ؛ وبدأ المرء يشعر أحياناً أنه في زيارة داره وأهله ؛ حتى إن أم يوسف قالت بعد دفن أم حسام عن يمين يوسف :
ـ لقد شعرت بطمأنينة متجددة لعلمي أن أم حسام ترقد بجانب يوسف ..
أما الليل فله حديث آخر؛ كلما رقدت ، أرجو الله رؤيا مبشرة يزورني فيها يوسف ، ومع إلحاحي بدأ يوسف يزورني زيارات خاطفة ، معانقاً مواسياً ، دون كلام أو حديث ، رجوته مرة العودة إلينا ، فتملص عائداً إلى أصحابه الجدد .. ما زلت آمل أن يبدأ يوسف بالكلام من جديد قائلاً كعادته :
ـ هل تعلم يا بابا ؟ دعني أقص عليك حكاية يوسف ..
وأخيراً جاءني يوسف في رؤيا واضحة جلية ، وضع رأسه في رأسي ملتصقاً بشدة ، قلت له :
ـ لم فعلت ذلك يا حبيبي ؟ لم غادرتنا فجأة ؟
فأجابني بكل وضوح :
ـ لقد فعلتها من أجلك يا بابا ، لقد قفزت عن اليمين ورحلت ، لقد كان ذلك من أجلك ..
وصحوت كمن عاد من عالم اليقين إلى عالم التخمين والحيرة ، راجياً الله أن يجمعني به على خير ..
الفرصة المتجددة :
بعد رحيل يوسف المفاجئ دون وداع أو استعداد ، بدأنا بضعفنا وجزعنا نبحث عن البديل ؛ سائلين المولى الرحمة والرشد .
ذهبت فاعتمرت وسألت الله الصبر والعون ، وسألته أن يعوضنا خيراً ، ويهبنا ابناً وبنتاً ، سائلاً بمزيد من العوض كعادة الإنسان الطامع ...
وعدت إلى الدار وبدأت الحياة تعود إلى ديدنها ..
وبقي طيف يوسف يلف الدار في الليل والنهار، ومضت الأيام سراعاً كعادتها تأخذ وتعطي بإذن بارئها ؛ فرحاً ، حزناً ، أو خليطاً من الأقدار والأخبار .
في صباح لطيف وصلني نبأ من أديب وعائشة ، نبأ البشرى بقادم جديد ؛ قالت عائشة :
ـ سأسميه يوسف إن جاء ولداً ، وستكون جداً ليوسف إن شاء الله ..
كانت ردة فعلي " الظامئة ليوسف " :
ـ نعم الاسم والمسمى ؛ لأجعلنه حبيباً وحفيداً ، وإن شئت تبتلت لرعايته ..
وها أنا الآن بانتظار يوسف الجديد ، ليملأ الدار أنساً وحباً كما ملأه عمه يوسف من قبل ..
وما زلت أنتظر زيارة من يوسف " الحبيب الأول " :
ـ أما ترى يا صديقي القديم ؛ أوما تدري ، لعل الله عوّضك خيراً ..
محمد إقبال الصالح
تامبا فلوريدا