آلام ما بعد الرجوع

آلام ما بعد الرجوع

أحمد ناصر نور الدين

[email protected]

(الجزء الثاني)

عائد من السفر لم يمضي على رجوعي سوى أسبوع. ما أن بدأت أستجمع قواي وأتكيف مع التغييرات. وأستوعب حمى المكان والبؤرة التي زجيت بنفسي بها.. حتى راودني الشعور قويا عارما بالاتصال بسلوى.. لكن خاطرة خطرت في ذهني فأحبطت عزيمتي وأخمدت حماسي.. هو سؤال بسيط جدا: أين أجدها؟ أجل أين أجدها؟ أخبار الوطن بأسره انقطعت عني منذ استقرت رجلاي في تورونتو.

أعرف أنها لم تكن موافقة على سفري من الأساس. حتى أمي لم تكن. لكنني لم أجد مفرا من السفر. كانت الدنيا تشتعل بحمى الحرب والجنون وبات كل شيء يتخبط في حمأة من العبثية القاتلة. أيام تتعاقب على بعضها وكل شيء كما هو. محاصرون في البيت ولا نسمع سوى اصوات القذائف وأزيز الرصاص. ولا أخبار نسمعها سوى أخبار القتل والمجازر وتلك الموضة التي راجت كثيرا ايام الحرب. "موضة الذبح على الهوية".

كان كل شيء يدفع بي الى المغادرة. شهادتي الثانوية نائمة في الدرج منذ عامين. سللتها ذات مساء وعلى ضوء الشمعة قرأت في وجهها المخنوق من الظلمة والمغطى بغبار سنتين، دعوة صريحة للسفر.

وفي سرعة كبيرة قررت السفر. حاولت أمي ان تثنيني عن ذلك وقرأت في وجه أبي تمنيا صامتا حزينا بألا أرحل. لكن الرفض الاعنف والاكثر صراحة وصرامة أتاني من سلوى. كنا واقفين في مدخل البناية المظلم. قرب المصعد العاطل منذ سنوات. وكان الوقت عصرا والمعارك في البعيد حامية الوطيس تصلنا أصواتها قصفا وزمجرة. قالت سلوى في حدة:

- أتريد أن تسافر وتتركني هاهنا وحدي؟

وقبل أن أجيبها أضافت في حدة أكثر:

- و لمن تتركني ها؟ لمن؟

فقلت لها:

- يا سلوى يا حبيبتي افهميني السفر ضروري جدا بالنسبة لي. خصوصا في هذه المرحلة.

- أية مرحلة؟. الحرب كما ترى. وأنا لا أعلم إن أنت رحلت كم من السنين ستقضيها غائبا.

- لن أدعك تنتظرين طويلا. صدقيني سوف ارسل اليك لتلحقي بي. بعد عام او اثنين على الاكثر.

نظرت سلوى الي صامتة للحظة. تأملتني بنظرة لا تنم عن شيء. وظننتها قد بدأت تلين. لكنها قالت

بفتور:

- أنا لا أسافر.

ثم بعد لحظة صمت قصيرة:

- أنا لست جبانة!

فهتفت بها محتدا:

- تقصدين أني أنا الجبان؟!

فقالت بعصبية:

- من يترك أهله وناسه في مثل هذه الظروف العصيبة ويفر بنفسه ماذا يكون بطلا؟

نظرت اليها  نظرة ثابتة للحظة ثم خفضت بصري الى الارض وتأملت كندرتها الحمراء المرصعة بالنجوم التي كانت تتوهج توهجا في ظلمة المدخل. سمعت أصوات القذائف المنهمرة ثم قلت لها بعد ان جررت نفسا عميقا:

- إسمعي يا سلوى. أنا لست أنانيا ولا جبانا. لكنني شاب واقعي وعملي وإنني أدركت أن بقائي هاهنا لن يجدي شيئا على الاطلاق. وأهلي ليسوا بحاجة                                                                                                      

 الى وجودي كذلك. أقصد أنهم  يتدبرون أمرهم إن كنت موجودا أم لا.

فقاطعتني سلوى:

- وأنا؟! وزواجنا؟

فقلت لها:

- سلوى أرجوك لا تضغطي علي. أنا أريد ان ابني مستقبلا متينا لي ولك. ما أجنيه من مال الان لا يكفي لشيء.

- وتتوقع ان تثري في سفرك؟

- على الأقل هنالك فرص كثيرة جدا في تلك البلاد. أما هنا.. فكما تعرفين.. الحرب والحصار ولا عمل يمكن أن أحلم به أفضل من عملي في فرن أبو سامر.

تنهدت وقلت محاولا تهدئة خاطرها:

- كما قلت لك يا سلوى.. ستكون الأمور كما تشتهين تماما. يا ستي اذا لم تشأي السفر لا بأس. لن أجبرك عليه. فورما أرتب أموري هناك وأثبت وضعي سأقوم بزيارات كثيرة الى هنا وسوف نتزوج.

قالت هازئة:

- نتزوج؟! ستقوم بزيارات كثيرة؟ (تنهدت باسمة) اسمع يا سهيل اذا كنت تحبني فعلا وتريد الارتباط بي حقا.. لا تسافر..

ثم همت بالذهاب لكنني امسكت بذراعها بحزم.

- سلوى اسميعني..

قاومتني. قالت لي:

- سهيل، ليس هناك المزيد لأسمعه. كما قلت لك. أنا لست مستعدة لاسافر واترك أهلي وبلدي. ولست أنا كذلك من ترضى الزواج بشاب حرم نفسه الاستقرار وجعل حياته وهبا للمجازافة والمصادفات. اذا كنت تحبني وتريد الزواج مني.. أطرد فكرة السفر من بالك تماما..

وغادرتني وحيدا منتصبا في تلك الظلمة الخانقة. سمعت وقع خطاها تقطع السلالم صعودا. وتزامن الوقع مع دقات قلبي الذي اعتصره الألم وتخاطفته

الأفكار بلا رحمة. حتى كدت اشعر به يتفجر تفجر تلك القذائف التي أسمع صداها آتيا من الخارج حيث القتل الأعمى وتباشير الموت مرسومة في كل مكان.

يتبع في الجزء الثالث والأخير