قاع الهاوية

محمد صباح الحواصلي

محمد صباح الحواصلي

كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة

[email protected]

"لقد استفدت كثيرا من وجودي معهم."

 ثم ابتسم كمن يداري فعلة شنيعة وتابع حديثه عن الامتيازات والصلاحيات. تمنيت لو لم ألقه.. فقد صار جابر إلى أبشع ما كنت أتصور أن يصير إليه تلميذ لي. عندها هوت في داخلي أروع نجمة حسبت أنها ستضيء سماء الوطن مع أخواتها النجوم. قلت له:

 "لقد غرست فيك غير هذه البذور يا جابر!"

 "فعلا.. لقد علمتني أشياء عظيمة."

 "لكن أينها؟"

 هبت نسمة باردة داعبت غرته الكستنائية الكثيفة فكشفت عن غضون مرهقة.

 "ما أزال أحفظ في نفسي الكثير مما علمتني."

 ذكرته, معاتبا, باستجاباته الواعدة, وبالأوقات الشريدة التي قضيناها معا.. مع الشعر والحوار.. في الطرقات, وخلف الطاولة المطلة على الرصيف في مقهى (الأتوال) بساحة النجمة, وفوق صخور جبل "قاسيون" عند نهاية خط المهاجرين, نطل على بسطة دمشق حيث يحلو لنا إنشاد القصائد الممنوعة بصوت عال دون خوف, والعودة من هناك سيرا على الأقدام حتى مطعم (بوز الجدي) بحي شيخ محي الدين.

 "أتذكر يا جابر كل هذا؟"

 "ما أزال احتفظ بكراس صغير جمعت فيه القصائد التي كنت تنصحني بقراءتها. احفظ معظمها غيبا إلى الآن.

"يا اخوتي. الحياة

 أغنية جميلة, وأجمل الأشياء

 ما هو آت, ما وراء الليل من ضياء

 ومن مسرات ومن هناء"

"وما الفائدة من أن تودعها ذاكرتك.. الشعر أحاسيس يجب أن تترجم إلى سلوك.. كان عليك أن تبني بما تعلمت لا أن تهدم."

 "كانت الظروف قاسية."

 "مهما قست.. الموت ولا هذا الطريق التي اخترت."

 قال بحدة لبقة:

 "لو تدري يا أستاذ كم كانت قاسية علي الأيام الأولى التي كنت أشهد فيها كيف يصير فيها الإنسان إلى شيء تافه.. أتفه من صرصار تدهسه بحذائك. كان كل شيء ممكنا وسهلا, وتلك كانت الطامة الكبرى. كان امتلاك القوة والسلطة مغريا بشهوانية طاغية. عندها لم يعد هناك عائق يمنعني من أن أكون (هنا صمت جابر لبرهة ثم تابع باعتراف حائر بين الجرأة والوقاحة) من أن أكون فاسدا.. بل وحشا."

 قلت له بنبرة متألمة:

 "والآن؟"

 نظر إلي فراعني أن رأيت في عينيه نقاء الأمس الجميل وتباشيره. شيء ما فيهما يتلهف للخلاص.

 "أنا خائف يا أستاذ."

 امتلأت عيناي بالصمت والإحساس بالعجز. سعلت من سخام السيارات وأمسكت بمنديل ورقي ووضعته على أنفي. شملت مشهد شارع الثورة ورصيفه العريض بنظرة مكبوتة. سألني جابر وقد بدا أنه راغب أن نغير الحديث:

 "أما يزال صدرك متعبا؟"

 "بل ازداد سوءا. إنه التلوث يا جابر.. آفة هذا الوطن."

كنت أدخله ملاذ عيني وأنا أدفع بكلماتي الملتهبة العاجزة. رأيت في عينيه امتثال ذكرني بذلك التلميذ الذي كان يمتلك القدرة على دخول فسحة المستقبل الأفضل من أصعب منافذه. كنت أدخله عيني, وكم وددت أن أطبق جفني عليه وأغيب في حلم خشيت دائما أن يكون متعذر التحقيق.

 "اسمع يا جابر.. يجب أن تتركهم.. أتسمع؟"

 وضع يده على فمي برفق وقال بحذر:

 "اخفض صوتك (تلفت حوله) هذا مستحيل."

 "بإمكانك لو صممت."

 "إنهم عالم مختلف.. أنت لا تدري شيئا.. إنهم الرعب والسلطة.. قاع الهاوية التي لا نجاة منها. لقد فكرت, يوم وضعت زوجي طفلا, أن أتركهم. حسبت أنني قادر على التمرد والتخلص من الخوف."

 قلت له وقد أذهلني ما أسمع:

 "أكل هذا يحصل في وطني الوديع!"

 ضحك. أتراه يسخر مني.. من أستاذه.. من عالمي الذي أظن أن تلميذي يراه في هذه اللحظة غارقا في الكتب والأحلام.. أحلام الغد التي طالما حدثته عنها والتي لا خلاص لنا إلا بها, ثم قال بنبرة واثقة وكأنه يكشف عن حقيقة مرة خبرها:

 "وطنك الوديع! هذا الوطن فيه من إمكانيات الفساد والهدم ما يغرق أحلام مئات الفلاسفة والشعراء والناس الطيبين مثلك"

عند نهاية الرصيف, ليس قريبا منا, كانت ثمة عينان مندستان خلف نظارة سوداء. كانتا ترقبان. شعرت لحظتها أن الخوف الذي حدثني عنه جابر شيء محسوس له عيون وشكل ولون ورائحة وحيز من الفراغ. رغبت أن يُطوى بيننا الحديث. كلمات الوداع حاضرة في فمي تنتظر كلماته الأخيرة التي أشرفت على الانتهاء.

 "صدقني يا أستاذ أن الأحلام العظيمة في هذا الوطن العظيم يمكن تحقيقها, إلا أنها لا تستقيم لأغراض هؤلاء الأقوياء التي تقتضي مصالحهم أن تبقى أحلامنا غير ممكنة."

تلك كانت آخر الكلمات..

 "إلى اللقاء جابر."

 "إلى اللقاء أستاذ." وشد على قبضتي وكأنه يذكرني بشيء. افترقنا وشبح العينين المندستين خلف النظارة السوداء ما يزال مغروساً في صلب حلمي الجميل.

 غاب جابر وراء منعطف أثقله الزحام, وغاب الآخر. أما أنا فقد بقيت واقفا في مكاني, وقد وجدت نفسي اردد كلماته بفزع:

"إنني خائف يا أستاذ."