إنهم لا يؤمنون بالجوع
د. هوار بلّو /العراق
في ليلة قمراء .. وفي ضاحية المدينة .. حيث تتناثر الخيام المتواضعة .. يجلس الشاب بالقرب من الموقد أمام خيمته وهو يتناول الحساء الساخن . وما هي إلاّ لحظات في ظل الصمت الرهيب ، حتى أحس برجل طاعن في السن يقف قريباً منه وهو يستند على عصاه ليطلق عليه التحية . فنظر إليه الشاب ، فإذا بإمارات التعب بادية على وجهه المتجعد ، فانتفض من مكانه كالذي يريد أنْ يأخذ حذره وهو يردّ عليه التحية . فأسرع الشيخ قائلاً :
- لا تخف يا بنيّ ، فأنا مجرّد إنسان جائع أبحث لنفسي عن كسرة خبز أسد بها رمقي .
تعجّب الشاب من بساطة كلامه وصراحته ، وأشار له بالجلوس من غير أنْ يتفوّه بكلمة وهو يحاول أن يألف وجوده . ثم صب له إناءاً من الحساء الساخن وقدّمه له مع قطعة من الخبز . وأخذ الشيخ يأكل من غير أنْ يشعر حتى نال كفايته ، ثم مسح فمه بطرفٍ من أطراف ثوبه البالي وقال :
- هل ترى هذا القصر جيداً يا بنيّ ؟
قالها وقد أشار بعصاه نحو قصر شامخ يقع في منتصف المدينة ، تملأ أعاليه المصابيح والأنوار ، ثم عاد يقول :
- أنا قادم من هناك مشياً على الأقدام !
فاستجمع الشاب جراته ليستفسره قائلاً :
- وما الذي جاء بك من هذا القصر إلى هنا يا عمّ ؟
فاجاب الشيخ :
- أنا رجل معدم لا أملك شيئاً غير هذا الثوب البالي ، فأحسستُ بجوع شديد واضطررْتُ أن أطرق باباً أسأل عنْ كسرة خبز أقيم بها عودي ، فاجتهدْتُ فلم أرَ أنسب من هذا القصر الشاهق كي أطرق بابه ، فطرقْته لكن أهله رفضوا إطعامي وأغلقوا الباب في وجهي . فعدْتُ أطرق الباب مرة أخرى من غير أنْ أنتبه لعاقبة أمري وأنا أصرخ قائلاً : (أنا مجرد جائع يا أهل هذا القصر!) .. وما رأيتُ إلاّ أنْ فتح أحدهم الباب وصفعني صفعة أسقطتْني بشيبي على الأرض ثم قال لي : (أنت مجرد ثيّب أحمق!) ، وأغلق الباب في وجهي بعنف ، وانكسرَتْ نفسيَتي أيما انكسار ، فأخذْتُ أجري من غير وعي مني حتى قادتني عصاي إليك يا بني .
أصيب الشاب بدهشة كبيرة ، ثم صاح :
- أهل هذا القصر الشاهق رفضوا أنْ يعطوك كسرة خبز تُسكتُ بها جوعك ؟ يا لشدة البخل الذي يسكن أرواحهم !
فأطلق الشيخ إبتسامة عريضة ، ثم قال في هدوء :
- إنه ليس البخل يا بنيّ . فلا تظنّ أبداً أنّ أهل قصر كهذا يخافون على مُلكهم من كسرة خبز يدفعونها لواحد مثلي . لكنّ كل ما في الأمر أنهم لم يحسّوا يوماً بطعم الجوع مثلي أو ببطونهم وهي فارغة ، فأصبحوا لا يؤمنون بالجوع لأنهم لم يتحسسوه يوماً في أنفسهم . كالذي ينكر ذات الله بحجة أنه لم يتلمّسه يوماً . إنهم لا يدركون كم هي كبيرة على النفس أنْ تمدّ يدها لشيء لا تملكه .
ثم قام من مكانه وقد استعاد قوته بعض الشيء ، وقال :
- كنتُ واثقاً مِن أنني سأجد ضالّتي عند أهل الحساء ، لا عند أناس تلامس قصورهم أعالي السماء .
قالها ، ثم استدار صوب المدينة و مشى بخطواته المتثاقلة وهو يهمهم بكلمة الشكر من أعماقه .