مطعم الدب

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

عندما كان يتجول برفقة صديقه  في السوق بمركز المدينة أو بالأحرى ما يسمى  قاع المدينة ، حيث تتداخل الأسواق والمحلات الشعبية مع المحلات الراقية ، وتصطف البسطات المتحركة أمام أنفس وأثمن المحلات التجارية ، وتنافس مطاعم الفول والفلافل  ومحلات الوجبات السريعة ، أفخم وأبهى مطاعم المشاوي والأسماك والأحياء البحرية ، ويختلط الناس بكافة أنواعهم وطبقاتهم ومستوياتهم واختلاف جنسياتهم وألوانهم  ومشاربهم ، رجالا ونساء  من عرب وأجانب أتوا من أصقاع شتى ، ويتلاحمو ن جميعا بالأكتاف جنبا إلى جنب في هذا المكان المزدحم من المدينة ، وبغتبر هذا المكان بحق شريان المدينة الحقيقي بل قلبها النابض .

 لفت نظره لوحة كبيرة كتب عليها بخط عريض وبعدة ألوان متداخلة : " مطعم الدب " ، وقد رسم عليها صورة  دب ضخم  سمين  أبيض اللون ، يسير متهاديا بخيلاء وزهو يرقى إلى حد الغرور .

أصابته دهشة وغرابة أذهلته عما حوله ، فقد زار بلدانا  وجاب أفاقا ، إلا أنه أول مرة يصادف مطعما بهذا الاسم  وتساءل في نفسه : أيعقل أن يوجد مطاعم للدببة في هذه المدينة الغريبة الأطوار، والتي يأتيها للمرة الأولى لزيارة  صديقه الذي يقيم بها منذ سنوات عدة .

التفت حول اللوحة يتفحص المكان ويتفرس فيه عله يجد الدببة وقد جلست على كراسيها  تأكل الطعام  فارتد البصر خائبا حسيرا ، إذ لم يجد أمامه غير طاولا ت عادية صغيرة متهالكة لا تتسع للدببة للتحلق حولها ! وقد اصطفت هذه الطاولات وتزاحمت في الساحة الواسعة المفتوحة والمكشوفة أمام المطعم ، وغصت بالبشر يجلسون فوق كراسيها الخشبية القديمة الكالحة من كثرة الإستخدام وتوالي الأيام  وتعاقب الزبائن التي جلست عليها ، فحتت منها أو أكلت الكراسي من ثيابهم أو بعض ما التصق بها ، والنادلون يتحركون بدأب ونشاط  كخلية نحل نشطة لإيصال الطلبات إلى الزبائن .

أطلق ناظريه تجوسان في الموقع وتتفحصان أرجاء  المطعم  وما حوله عله يجد أحدا يسحب دبا من الباب الخلفي ، أو يدخل برفقته للبهو الداخلي ، إلا أنه لم يجد شيئا من هذا .

صحا من شروده على إثر دفعة قوية من رجل مرّ بجانبه مستعجلا كاد أن يسقطه أرضا بعد أن طوح به بعيدا ، فانتبه إليه صديقه ومرافقه وهو يراه يندحر هاويا  للخلف من شدة الدفعة ، فأسرع نحوه يمسك بيده ضاحكا وهو يقول :

- حمدا لله على سلامتك .

-  شكرا لاهتمامك .

-  قال مداعبا : لعلك قد سرحت قليلا وسرق نظرك تلك السائحة الشابة الجميلة ؟

-  أجابه مبتسما  : لعل ذاك هو الذي أسكرك ونسيتني بجانبك حتى صدمني ذلك الأعرابي ..... الأرعن .

- لعلني .... قالها وهو يضحك بمرح مقبلا نحو صديقة ليروح عنه قليلا وينسيه أثر تلك الدفعة الهمجية التي عكرت مزاج صاحبه ثم أضاف ،  ولكن أنت في أي عالم كنت ؟

-  أجابة بفكاهة وهو يشير إلى  اللوحة  بيده ... كنت هناك ..... مع الدب ! .  

-  قهقه : وهو يشير بيده جهة المطعم  قائلا : الدب ؟ .

-  نعم ، إن الذي سرق بصري هو بحثي عنه هناك .

-  قهقه بصوت أعلى  قائلا بسخرية  يسأله  :  ولم تجده ؟

-  ليس بعد .

- ألاترى الدببة أمامك ؟

-  أرى بشرا ... لا أرى دببة .

-  نعم هناك بشر ولكن بينهم كثير من الدببة ! .

-  وهل ترى أنت تلك الدببة ؟

-  بالطبع .

-  وأين هي ؟

- هناك ... الأبيض ، وذاك .... الأسود ، وذلك  .... الرمادي الذي يجلس بعيدا  .... والأحمر .. والأصفر  ... وال .. !.

-  لا تمزح معي يا رجل !

- التفت إلى صاحبه ضاحكا يفسر له ذلك : الدب هنا معنى مجازي فالمقصود فيه  " السمين الضخم من البشرالذي امتلأ لحما واكتنز شحما " ، أي الذي يأكل في هذا المطعم يكبر ويصبح سمينا كالدب ، كناية عن لذة الطعام ...  وكثرة مقبلاته .... ورخص أسعاره !

- انفلتت منه  ضحكة طويلة مقهقها بسعادة أخرجته من حالته السابقة ، ثم أضاف يسأل صاحبه ودليله :  وهل كل هؤلاء يأملون أن يصبحوا دببة ؟ !

-  أو يحافظوا على واقعهم من عالم الدببة ! .

-  أحلام طموحة يحسدون عليها .

- قال وهو يشير نحو الحشود المزدحمة والغائصة بين الرز والمرق الدسم  وقطع اللحم الشهية : هل يراودك هذا الحلم الطموح ؟  ... ثم استأنف : إذا راودك فإن دعوتك على حسابي .

-  أنا رجل واقعي ومتواضع وكذلك أحلامي .

- قال ساخرا : لا تكابر .... ! إنه المطعم  الوحيد في المدينة بهذا الاسم ، بل ربما كان المطعم الوحيد في العالم الذي يحمل هذا الاسم ، إنها فرصة تاريخية لزائر مثلك لا أنصحك بتفويتها ، فاقتنص هذا الفرصة واغتنمها ، وإلا فقد تندم ! .

-  إن ندمت وقررت أن نكون دببة معا في هذا العراء ،  فستكون الدعوة على حسابي في طريق العودة  ! .

- ضحكا معا وانطلقا ممسكين بيدي بعضهما بقوة ، وهما يشقا طريقهما للأمام ويخترقا الحشود  ليستطلع قاع المدينة ومعالمها القديمة ، بر فقة صاحبه ودليله السياحي في تلك الأحياء الشعبية ،  فابتلعهم السوق واختفيا معا في  شدة الزحام ، بين الكتل البشرية المتلاحمة والأمواج المتلاطمة.