الأسيرة
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
حدثني الراوي و هو يعزف على الكمان انه في قديم الزمان كانت هناك فتاة باهرة الجمال ذات شعر ذهبي كالسنابل قبيل الحصاد تعيش في ضيعة مثقلة خوابيها بصنوف الغلال وعلى صلة طيبة بالقرى المجاورة.كان على نساء القرية و رجالها أن يذهبوا إلى نبع الماء الوحيد على مسافة فراسخ في أطرافها.كان بعضهم يمتطي صهوة جواد أو ظهر حمار و كان آخرون يطوون المسافات مشياً على الأقدام لإحضار الماء.أما فاتنة القرية فكانت تجد حرجاً في الذهاب معهم اتقاءً لنظرات الفضوليين أو المعجبين فقررت أن تذهب وحيدة وفي وقت مبكر قليلاً ، فالجو يكون أكثر نقاءً و حبات الندى لم تنقشع بعد و لم تعانق شعاع الضوء.
ما أن ملأت جرتها حتى فاجأتها زمرة مفتولة العضلات كانت تكمن لها بين أشجار الزيتون ،قاومت و لكن دون جدوى فقد ألقوا على وجهها منديلاً به مادة مخدرة ، لفوا جسدها الندي ببطانية ليكتموا صوتها. تلاشت آثارهم خلف الحقول و هم يحملونها بين أيديهم المرتجفة.انتشر خبر الاختطاف كالنار في الهشيم فانطلقت الجماعات من مختلف القبائل تبحث عن الخاطفين و تقتفي آثارهم. قال بعض الرعاة أنهم شاهدوا وجوهاً غريبة، بينما قال آخرون أنه لم يكن بالإمكان تحديد ملامحهم ، فقد مروا كالسهم.تتبع القوم آثار حوافر الخيول،دخلوا الكهوف مشرعة سيوفهم ، مصوبة رماحهم ،مستلة خناجرهم ، ولكنهم لم يجدوا سوى بعض الخفافيش. تطاير الشرر من عيونهم و قرروا عقد اجتماع يضم وجهاء المنطقة للبحث في السبل الكفيلة بمسح العار الذي نزل بهم كالقدر المكتوب.
- علينا أن نجد المجرم متلبساً ، صاح أحدهم و هو يعبث بأرنبة أنفه
- سنجلسه على خازوق ثم نشعل في جسده النار حتى يحترق و نوزع رماده بين القبائل تذكاراً- أقسم وجيه آخر.تخلل الاجتماع تهديد ووعيد وقصائد حماسية ألهبت مشاعرهم وصقلت حناجرهم ولكنهم لم يتفقوا على خطة محكمة أو عمل محدد .
وصل إلى مسامع أهل القرية أن العصابة تتخذ من أحد القلاع القديمة الموجودة في ضيعة مجاورة مخبئاً.هرعوا للمكان و ما هي إلا مسيرة أيام حتى كانوا يحيطون بالقلعة القديمة كإحاطة السوار بالمعصم. أخذوا مواقع قتالية ، رشقوا المكان بعشرات السهام المسمومة حتى يبثوا الرعب في قلوب الخاطفين. لم يخرج أحد ، فقد كانت القلعة محكمة الإغلاق.اضطروا لاستدعاء بعض المحاربين من القرى المجاورة ممن لهم خبرة في مقارعة الحصون .قذفوها بآلات تشبه المنجنيق و لكنها كانت عاجزة عن إحداث ثقوب موجعة في بنية القلعة.
توقفوا قليلاً أمام عجزهم عن فعل شيء ذي قيمة، نصبوا خياماً للمراقبة و انتشر الرماة على التلال المحيطة و زرعوا العيون في كل ركن يمكن أن يلجأ إليه أفراد العصابة. و أخيراً أطل رئيس العصابة و مد عنقه عبر فتحة سرية في أعلى السور، تحدث إليهم من خلال بوق مضخم للصوت و قال بشيء من العجرفة: هذه الفاتنة- و أظهر لهم خصلة ذهبية من جدائلها- من عشيرتنا .عقدت المفاجأة ألسنتهم وجحظت عيونهم. صرخ المختار" ما هذا الهراء أيها الوغد ؟".
- أنت تعرف، فقد أضاعها ذووها و هي صغيرة في غمرة الصراع مع القبائل المجاورة عندما أحرقت مضاربنا و استبيح ما تبقى من نسائنا – أيها المختار.
حدق الجميع في المختار يريدون منه أن يكشف عما يعرفه و لا يستوعبونه.صرخ المختار في الخاطف و أكد أن هذه ترهات من نسج خيال الخاطف ، و حلف بأغلظ الإيمان أن الفاتنة هي ابنة العشيرة ، فارتاحت نفوس الفرسان بعد أن أدركوا إن المجرم يريدهم أن يتراجعوا بعد أن يهز عدالة مطلبهم.
رتبوا صفوفهم من جديد، تقدموا قليلاً ثم صرخوا مهددين" انزل أيها الجبان الرعديد ، والله لنقطعنك اربأ ".غير أن ما أحرج الجميع إن الخاطف الجبان انتابته موجة من قهقهة حتى بانت نواجذه،لوح بسيفه ، لم يأبه بالصراخ و التهديد. قال لهم باختصار" ما دام هذا في يدي....البقية عندكم أيها ...." و دخل القلعة متأبطاً ذراع الفاتنة.
طال الحصار و كتبت الحوليات من القصائد و صارت القلعة قلاعاً و الأسيرة أسيرات ، أنجبت الفاتنة سفاحاً من خاطفيها وأصبحت القلاع تعج بالساكنين!
قال الراوي :ظلت الفاتنة الأسيرة خلف القضبان تبكي حتى ابيضت عيناها بانتظار خبر ينقله حمام زاجل فوق الأسوار عن قدوم فارس على حصان أبيض