زمن الخوف

وفاء خالد عيسى

هيا أنهضي من مقعدك وأبعثي الامل في نفسك من جديد … أنه يوم ربيع جميل .. هل تشمين رائحة الزهور وطلع النخيل .. ألا تسمعين هدير الحمائم وزقزقة الطيور, حتى الشمس هي اليوم متألقة وكأنها تلبس ثوب زفافها هيا يا أبنتي أخرجي قليلاً من البيت وتمشي بين الحقول علك تنسين الحزن والهموم فما زلت في عمر الشباب والحزن ليس لمثلك والحياة مستمرة لا تتوقف ويجب عليك أن تستمري أنت ايضاً ولا تضيعي عمرك هبائاً .. ما أن سمعت كلمات أمها تلك حتى قامت لهيب من مكانها المعتاد وخرجت من البيت بخطوات مترددة وخائفة فهي لم تغادره منذ فترة طويلة وأخذت تسحب الهواء بأنفاسٍ عميقة وكأنها تتنفس لأول مرةٍ في حياتها شاهدت من بعيد احدى صديقاتها القديمات فأسرعت نحوها ولكن ما أن رأتها صديقتها حتى دخلت الى البيت وأغلقت الباب فتمتمتت اللهيب مع نفسها (لقد أصبحت شيئاً مخيفاً وكأنني وباءٌ يخافونه الكل يتجاهل وجودي يالجبنهم وخوفهم ولكن ربما لديهم حق فالحاكم لا يرحم أحداً) أخذت تمشي وعيونها على الارض حتى لا ترى أحداً يتجاهلها فوصلت بها أقدامها الى ضفة النهر حيث السدرة الكبيرة تقف هناك فاردةً أغصانها الخضراء في كل مكان وهي تحتضن الطيور وصغارها وتسمع غنائها وتتمايل مع أصواتها فوقفت لهيب عندها وأخذت تنظر اليها وقد عادت لها كل الذكريات وشعرت وكأن الشجرة تعانقها وتسأل عنها بلهفة المشتاق المفارق لأحبابه فأرتمت تحت ظلالها وأخذت تبين لها سبب غيابها وتحكي ما حصل لزوجها سمير (أتذكرين همس العشاق ومناجاتهم ولحظات اللقاء هنا تحت ظلالك كنت تحتضنين الحب والاشزاق وتكتمين الاسرار يالصبرك الطويل كم تحملت هفواتنا وأخطائنا وشجارنا كم خبأتنا عن العيون الرقيبة وحدك أنت فقط من شهد ولادة حبنا وعهدنا كنت أمنا الحنون على جذعك حفرنا أسمائنا هل تذكرين سمير كان لا يحلوا لهو الغناء الا هنا فهو يقول أن السدرة هذه تطرب عندما تسمع صوتي أنت مستغربة وتتسائلين نعم عندك حق فأنت لأول مرة ترينني وحدي بدونه .. لقد سرقوه مني أخذوه من بيت أضلعي سحبوه سحباً من فوق الوسادة وتركوني وحيدة محطمة أتعرفين لماذا لا شيء فأنت تعرفينه جيداً محباً صادقاً ودوداً وشهماً ولكن مندفع في كل شيء ولا يستطيع الصمت على الاهانة فأستفزوه وشتم الحاكم ويا ويل لمن يشتم الحاكم وكيف يتجرأ ويعمل عملاً كهذا أنها لمصيبة كبرى كما تعرفين في يلدتنا هذه فمن يكتم سره ومن يرحمه وهكذا فقدته .. ولكني لم أستسلم وذهبت الى الحاكم استعطفه وأتوسل اليه وأعتذر بالنيابة عنه ولكن أتعرفين ما عمل الظالم في اليوم التالي من رجوعي منه أرسله جثة هامدة وحرم علينا الحزن والبكاء وحتى الكلام تصوري اصبحنا غرباء حتى عن أهلنا وجيراننا فالكل يخاف أن يطرق بابنا أو يكلمنا حتى لا يكون مصيره مثل مصيرنا وها أنا أمامك أرملة في عز شبابي كسيدة وحيدة أتعرفين أنت الوحيدة التي سمعت شكوتي فأنا منذ زمن حبيسة البيت لا تقوى قدماي على الخروج .. آه يا سدرة العشاق كم لعبنا حولك وتسلقنا أغصانك وأحتمينا بك من كل ما يخيفنا أنا الان ضائعة وقلبي مليء بالحقد والكراهية .. جرحي عميق لا ينتظر وليلي طويل لا ينتهي هيا مدي أغصانك حولي وضميني فالخوف في داخلي رهيب والظلمة حالكة وأنا بحاجة الى أحد يحميني خبأيني مثلما كنت تفعلين أم اصبحت مثلهم تخافين الاقتراب مني).

وفي تلك الاثناء سمع بعض المتملقين حديثها فأسرعوا الى مولاهم وأخبروه أن لهيب تحيك له أمراً ما وتتآمر لقتله مع جماعة تلتقيهم تحت السدرة الكبيرة فأستنفر الحاكم جنوده وأعونه بحثاً عن لهيب وقتلها في الحال لجرأتها وتأمرها فأسرعوا الى المكان وحاصروه من كل جانب وفتحوا نار أسلحتهم بكثافة وأمطروه بالرصاص حتى تنخر جذع السدرة وسقطت كل أوراقها وثمارها وتحتها لهيب مستلقية مضرجة بدمها والاوراق الخضراء تغطيها من كل جانب وكأنها أم أحتضنت رضيعها.