حادثة انقلاب
د. ياسر العدل
[email protected]
حين
أحصيت فى الوجوه عدداً مناسبا من التحيّات والابتسامات وعلامات الوداع، أدرت محرك
السيارة، وانطلقت أقودها متباطئا ومناورا ومتسابقا، أشق طريقى غندورا وسط انبهار
الجموع، متجها إلى مدينتى البعيدة، ممنيا نفسى بطيب اللقاء مع الطريق ثم الزوجة
والأولاد.
طريق
الإسفلت ناعم والسيارة مطيعة، واخضرار حقول البرسيم يشد زرقة السماء إلى اتساع
الأفق، وأشجار الكافور تلقى بظلالها على الطريق فاتحة بين السحب كوات من شمس شتاء
حانية، فتحت زجاج السيارة قليلا فتسرب هواء طيب معبأ برائحة الحقول، وانتعشت فى
رأسى أحلام ومواقف منتقاة من زمن جميل، وظلت الموسيقى تنساب حولى.
فجأة لمحت من خلفى سيارة باهرة
الأضواء تأتى مسرعة، تشق الريح برعونة وتمرق بجوارى، انها رعناء تسارعت خلفها سيارة
أخرى أكثر رعونة، تشاكس الطريق والسيارات وتحاول اللحاق بالأولى كأنهما فى سباق
محموم، فجأة انحرفت الرعناء إلى أقصى اليمين تقفز من نهر الإسفلت إلى حقل برسيم
مجاور للطريق، هكذا وجدتنى أمام حادثة انقلاب.
حين وصلت سيارتى لمكان الحادث، كانت
الرعناء قد انقلبت مرتين واستقرت على ظهرها تدور عجلاتها فى الهواء، وعلى جانبى
الطريق توقفت سيارات عابرة فتحت أبوابها وخرج ركابها مفزوعين، هى ثوان مرت واشتعلت
النار فى الرعناء المقلوبة، وظلت بمن فيها ينتظرون النجدة.
حين فكرت فى تقديم يد المساعدة تذكرت
أشياء وأشياء دارت بينى وبين الجميع، كراهيتى لضابط شرطة أجبرنى على تغيير طفاية
حريق لسيارتى رغم صلاحيتها، احتقارى لمحامى يتاجر فى ملفات حوادث الطرق، حنقى على
مسئول تحرش بأستاذ جامعى حاول إبداء رأى سياسى مخالف، اعتقادى بأن من يملكون سيارات
فارهة قادرون على تكاليف العلاج من آية حوادث، إنهم يدفعون من خزائنهم ومن أموال
الدولة وحين تفرغ خزائنهم يملأونها من دمائنا ويسحقون حبات كرامتنا، ومعرفتى بقصور
أجهزتنا الحكومية فى إدارة الكوارث، وان الكوارث فى بلادنا تتكالب على رؤوس
المجهدين والغلابة، هكذا عضنى
الإيمان الشعبى العام بأن
تبرعى للشهادة على ما حدث سيدخلنى فى دوائر تعذيب على يد سلطة غبية ترانى مجرما طول
الوقت، وتحاكمنى على اعتبار أننى القاتل الوحيد لكل صنوف الحياة على الأرض، وأصبح
منطقيا أن اتخذ قرار الابتعاد.
هكذا تسربت مبتعدا عن موقع الحادثة،
وتسرب معى كثير من عابرى الطريق وأهل القرى، يضمون شفاههم ويلوون أعناقهم، وواصلت
بين الجموع طريقى حاملا سؤالا جديدا لم أعرف له إجابة صريحة، كيف لمواطن شهم مثلى
فى هذه البلاد، أن يرى سيارة يصيبها حادث انقلاب ويتركها تتلوى دون مساعدة؟