متعالم في محلة الأدوات المنزلية

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

ذهبت أمس إلى محل كبير لبيع الأجهزة المنزلية، وكان ذلك لأن كتيب التعليمات كان ناقصاً -خطأً- من حزمة السخان الموجي (المايكروويف) الجديد الذي اشتريته قبل أيام. وبعد أن أخبرت رجل صندوق الاستعلامات والشكاوى بمشكلتي بعث بأحد عماله إلى المستودع الخلفي ليحضر لي كتيب تعليمات جديداً. وأخذت أجول بنظري في أرجاء المكان بعد ذلك، فلاحظت على مكان غير بعيد عني رجلاً وامرأته قد وقفا ووقف قبالتهما رجل نحيف أعجف، ومع أن هذا الرجل النحيف لم يكن يرتدي زيَّ العمالِ الرسميَّ في المحل إلا أنه بدا في غاية الانسجام والحماسة وهو غارق في محاضرة طويلة عن مزايا أحد الأجهزة المعروضة أمامهم، وسمعته يقول: "وكما ترى سعادتك، شاشة هذا التلفاز شبه مدورة، وهو تصميم جديد ابتكر حديثاً لمسايرة نطاق رؤية العين المدور متدرج التلاشي كلما ازددت اقتراباً من الحواف، وأما هذه الأزرار الضخمة التي تراها في الأعلى فليست -هي الأخرى- استثناء من نزعة الابتكار الجديدة هذه، إذ أن هذه الأزرار، كما تلاحظ سيادتك، باتت أكبر حجماً مما كانت عليه في التصميمات القديمة لتصبح سهلة الكبس بالنسبة لأصحاب الأصابع السمينة، وكذلك جعلوها أعلى مكاناً ليسهل عليك ضغطها فلا تضطر للانحناء حتى ينقصف ظهرك كما كنت تفعل في الماضي".

ثم توقف الرجل المتفلسف عن الحديث لحظة من بعد ذلك وجعل يقرب عينيه من الأزرار ليرى ماذا رسم عليها، وظل هنالك مثبتاً نظره عليهن ساعة وكأنه يستجمع أفكاره، ثم انتفض واقفاً فجأة وقد أشرق وجهه، وعاد فنظر إلى الرجل وامرأته وأخذ يتابع حديثه المحموم: "وهذا الزر، كما ترى سعادة حضرتك، مرسوم عليه مثلث متساوي الأضلاع، وهو رمز مثلث الحريق طبعاً: الهواء والماء والحرارة، وهذه الثلاثة، كما تظهر الأبحاث العلمية، هن أعدى أعداء التلفاز، فإذا ما تسرب بعض الماء إلى التلفاز أو ارتفعت حرارته، قام بمجابهتهما في هذه المعركة الضروس الضلع الثالث في المثلث: الهواء! إذ كل ما عليك فعله هو أن تضغط على هذا الزر، فإذا فعلت ذلك شغل التلفاز مروحةً في داخلِه جبارةً، صممت خصوصاً لحمايته من عدوي التلفاز اللدودين هذين، فإذا كان ماء تبخرْ، وإن كان حرّاً تخدَّرْ!..".

ويبدو أن الرجل كان عندها قد بلغ أعلى درجات الحماسة والاندماج في الموقف، وبينما هو كذلك إذ أقبل رجل بزي الموظفين الرسمي ووقف أمام السيد والسيدة ثم سألهما بلباقة: "هل أستطيع أن أخدمكما بشيء؟"، فأشار الرجل بيده إلى الجهاز المعروض وسأل: "أجل، بكم هذا التلفاز من فضلك؟"، وعندها جمد الموظف في مكانه لحظة، ثم نظر إلى الرجل من طرف وجهه شزراً وقال: "تلفاز؟ إن هذه غسالة!". ونظرت إلى الفيلسوف النحيف فإذا هو لم يتغير وجهه ولم تتحرك شعرة في جسده خجلاً من نفسه، بل اكتفى بأن دار وانسحب من مكانه بهدوء إلى ركن آخر في المحل وكأن شيئاً لم يكن!

وحينها ناداني موظف الاستعلامات لأن كتيبي كان قد وصل فأخذته وانصرفت. وبينما أنا أجتاز المحل في طريقي إلى باب الخروج إذا بي أرى صاحبي المتفلسف مرة أخرى واقفاً مع سيد وسيدة جديدين! وسمعته يقول لهما وهو يربت بيده على زر زيادة الحرارة في برميل كهربائي لقلي البطاطا: "وهذا الزر، كما ترى حضرتك، يستعمل لزيادة تركيز الصابون في هذه الغسالة "السفاري" الصغيرة..". وكان واضحاً على الرجل استعدادُه لساعة أو ساعتين أخريين من هذا الحديث، إلا أنني لم أكترث له، بل تابعت طريقي وتركته يثرثر كما يحلو له!