تكبيرة الإحرام في أوربة
تكبيرة الإحرام في أوربة
جمال المعاند -إسبانيا
- الدعوة همّ يؤرق الدعاة ، يسوحون في غابات وقفار الأفكار يحاولون الإمساك بأي آلية واستأناسها ، وفي الغرب تلتف الأفكار وتتشعب تزيدها رطوبة البيئة وعفنها صعوبة على صعوبتها.
صلينا المغرب من ثم اتجهنا إلى مقهى لاحتساء القهوة ريثما تحين صلاة العشاء حتى لا نشوش على مصل أو قارئ للقرآن ، فإننا بصدد مناقشة موضوع فقر التراث الدعوي في الغرب .
صلب الموضوع المثار ، أساليب عودة من ضل من المسلمين ، وبين مقترحات وتفنيد ، إذ طلع علينا شاب ، مكتنز العضلات عبل من الرجال ناصيته تعلو هامات من حوله ، ولمعرفته بعضنا جلس إلينا استمع لجزء من الحوار كان أحد الإخوة على علاقة قديمة معه ، فطلب منه أن يحدثنا قصة التزامه .
اكتفى صاحبنا عن المشاركة بالابتسامة ، وتدخل الحضور لإقناعه برواية القصة ، فقال:
ولدت في قرية لا تبعد عن شاطئ البحر إلا بضعة كليو مترات، وما إن اعتمدت على نفسي ووثق مني أهلي إلا وأزجي أوقاتي بعد المدرسة قريباً من المنتجعات السياحية ، أنظر إلى أجناس شتى وأزياء لا تنتمي لمنطقتي ، وأسمع لغات عدة ، فوفود السياح عندنا على مدار العام ، اخترت السياحة علماً ومهنة ، وتعلمت من اللغات الحية الألمانية وشيئاً من الإنكليزية وبما أني تونسي فأنا أتقن الفرنسية .
عشت مرحلة الصبا والشباب شأني شأن أقراني ، لا أركع لله ركعة ، منغمس في اللذات ، أبرزها علاقات مع الجنس الآخر وتحديداً مع السائحات الشابات .
واحدة منهن كانت سويسرية خطفت قلبي ، ونفث الشـيطان بيننا ، فنمت علاقة ، أرسلت لي دعوة لزيارة بلدها فوطأت أجمل بقاع أوربة وذقت عسيلتها ، وهكذا خلال عامين من عمري على اتصال دائم مع صاحبتي وسفر متقطع .
كلمات الحب منها ومشاعرها الدافئة ، جعلتني أظن أني ليس مالكاً لقلبها فحسب ، بل هي َأمة لي أتصرف بها كيفما أشاء ، قررت أن أكون شريفاً وأصيلاً ، عرضت عليها إحاطة تلك العلاقة بشرعية ، إنها أحلامي التي كانت تراودني قبل أن أبلغ مبلغ الرجال في بيت وإمرأة وأطفال... لكن هناك في جنة الأرض أوربة ، وعندما عرضت الأمر عليها فوجئت برفضها التام لفكرة الارتباط و محاولاتي باءت بالفشل ، فهي ليست مهتمة إلا بممـارسة الحب معي .كما أنها قالت لي بالحرف الواحد أنتم العرب لا ترغبون بأسـرة فأحدكم يريد تكوين قبيلة ، رفض عقلي التأقلم مع ذلك الوضع و أنف طبعي العربي من أن أكون تيس لقاح ، أردت أن أريها أن جمالها الفاتن لن يأسر شاباً مثلي ، ولن تسمح لي مبادئي التي نشأت عليها أن أنقاد وراء غرائزي فقط ، فقطعت علاقاتي معها تماماً .
أخذت بالبحث عن أخرى تحل محل صاحبتي القديمة ، على مبدأ علاج الحب الفاشل آخرجديد ، أو داوني بالتي كانت هي الداء ، ولا تقع عيني إلا على الأوربيات تحديداً ، فالبيت الذي بنيته في أحلام اليقظة يقع في أحد أحياء مدينة أوربية يحدد القدر اسمها ، أما لماذا مدينة أوربية ؟ . فلأسباب منها أن العمل هناك مقنن الساعات، ومربح، وكل كماليات الحياة مبتذلة .
جمعتني الأقدار بإمرأة إسبانية وفدت سائحة إلى حيث أقيم في تونس ، واكتشفت أنها تتقن الفرنسية فما من مشكلة في التواصل معها ، قرر ت البدء من حيث انتهت علاقتي القديمة ، فعرضت عليها الزواج متعللاً أن عاداتي التي نشأت عليها لا تسمح لي بعلاقة عابرة ومؤقتة ، وافقت من غير جهد فتزوجتها .
أتممت الأوراق المطلوبة ، كنت في عجلة من أمري أريد اختصار الزمن لو أمكن ذلك ، لأدلف إلى الاستقرار الذي أنشده ، وصلت إسبانية وأغدقت علي كل ما حلمت به ، سيارة من أحدث طراز وأسكن في بيتها، وهي الوارثة الوحيدة لأب غني رحل عن الدنيا وترك لها من الأملاك ما إن أجره الشهري يجعلها في رغد من العيش ، طلبت مني التفرغ للمتعة وأن لا أبحث عن أي عمل ، بعد أيام من استقراري في إسبانية تعرفت على ذويها فاكتشفت أن لديها ولدان من زواج سابق لم تخبرني عنهما ، وأنها لا تستطيع الإنجاب بسبب مرض اضطرها لتدخل جراحي.
حاولت إقناع نفسي أن القدر لا يمشي مع أهواء البشر إلا هنيهة وربما يساعدهم في تحقيق بعض أحلامهم لكن آلياته لها مسارات أخرى ، ومما حفظته من تراثنا أنها حكمة الله جل في علاه ، وليس لي الاعتراض .
انقضت سنين لا أعمل وإنما حياتي سهرات مخملية ، أستيقظ مع انتصاف النهار ، أحتسي القهوة ثم أذهب مع زوجتي إلى أحد المطاعم الفخمة ، ومن بعد إلى النادي ، فعودة للمنزل وتغير الثياب للسهرة .
نسيت ماكانت تطبخ أمي ، وانقطعت البته عن كل ماهو عربي فلا أحفل برمضان ولا أعياد ولا أتواصل مع أهلي في تونس إلا لماماً .
في يوم من الإيام فاجأتني إمرأتي بسفر مع مجموعة سياحية رفقة بعض من أصحابها لبضعة أيام ، وتركتني في المنزل وحدي .
خلال غيابها استرجعت ذاكرتي شريط الأحداث منذ أن تعرفت عليها وأخذ ذهني بمراجعة مالي وماعلي ، اكتشفت أن إمراتي الإسبانية لا تختلف عن صاحبتي السويسرية ، وأن المحصلة واحدة ، فلا أولاد ولا عمل ، إنما هو طعام وسفاد فقط .لكن الإسبانية زوجة وليست صديقة ، أردت الخروج من وضع لا يروق لي بالكلية وعلي التعقل وحساب الخطوات حتى لا أقع مرة ثالثة ، تعرفت على شباب عرب منهم السوري والفلسطيني والمغربي ، بعضهم متزوج من إسبانية لكنه يعمل ومنجب للأطفال . عادت إمراتي من سفرها لتجد أمامها قراراً مني بالبحث عن عمل ، حاولت ثنيي عن ذلك وأمام إصراري طلبت مني أن تبحث لي مكان عمل يليق بمكانتها ، رفضت أي تدخل منها وبدأت المشاكل ، وعادة النساء أن يحملن الأمر على إمرأة غزت عقر دارها أثناء غيابها ، فذهبت تحصي علي أنفاسي وترقبني وتحاسبني على الصغيرة قبل الكبيرة ، ووصلت علاقتنا إلى طريق مسدود ، فقررت الانفصال عنها .
تركت البيت وسكنت مع مجموعة من الشباب العرب ممن تعرفت إليهم مؤخراً ، في الصباح أذهب للعمل وفي المساء إلى حانة ، ويوم السبت أصطحب من بنات الهوى لتمضية نهاية الإسبوع ، واستمر هذا الحال ، كل ما أجنيه أنفقه على الملذات مع شلة ليس منهم ساجد لله .
في يوم عطلة اجتمعت شلة الأنس- ثلة الأنس- كما كنا نطلق على أنفسنا في مقهى ، دخل إليه وقتها أحد الدعاة ، كان من بين الشلة من يعرف الداعية فعرض عليه احتساء كوب من القهوة معنا ، اعتذر الداعية لقرب صلاة المغرب ، فقلت له: إجلس وأشرب القهوة معنا وأنا أوصلك بسيارتي ، قبل الداعية العرض فجلس لشرب القهوة كان ذلكم الداعية بين فينة وأخرى يختلس النظر إلى ساعته ويعجل في شرب القهوة ، والحضور يطمئِنونه أن في الوقت متسع ، وهويقول أخشى زحمة السير وأن أصل متأخراً فتفوتني تكبيرة الإحرام .
كلام ما سمعته قط في حياته ، بل لا أدري ما تكبيرة الإحرام ، سألته من باب الفضول وما تكبيرة الإحرام تلك؟ .
فأخبرني أنها أول أقوال الصلاة ، ثم اختار ذلك الداعية الحصيف قصة فالناس لا يعلق بعقولهم مثل القصص
فقال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إلى البحرين وأمرعليهم العلاء الحضرمي وكان من بينهم سيدنا أبو هريرة فأوصى به الأمير ، فقال لأميره العلاء اطلب منك أن لا تسبقني في تكبيرة الإحرام ، ثم عرج الداعية على فضائل تكبيرة الإحرام ، ومـا إن انتهى من حديثه حتى هــب مسرعاً ، فلحقت به لإيصاله .
يومها أوصلت الداعية للمركز الإسلامي والذي لم أكن أعرف موقعه ، وعدت إلى المنزل انتابني شعور أني تائه ، أخذ عقلي لأول مرة يفكرفي هذا الشأن ، هذا الشاب من أترابي وهو ليس حريصاً على أداء الصلوات فحسب ، بل يخشى فوت الجماعة ، فهل هو مسلم وأنا مسلم ؟ .
في اليوم التالي انتظم عقد الشلة في المقهى ذاته ، سألت من يعرف ذلك الداعية ، فأخبرني أنه أعزب وأن لديه أوراق إقامة بيضاء لا تسمح له بالعمل إلا ساعات إسبوعية يقتات منها .
انقضت أسابيع وموضوع تكبيرة الإحرام عالق في ذهني ، تارة أقارن بين رواية أبوهريرة وحرصه ، وبين ذلكم الداعية واتباعه ، فأجد المشترك هو أخذ التدين بجدية واضحة .وتعود بي الذاكرة لما قيل عن ذلك الداعية وضيق رزقه ، ورأيته نزلة أخرى في السوق فألفيته ضاحكاً جزيلاً ، أما أنا فأعمل ساعات طبيعية وأحصل على أجر أعلى وأحس بضيق يضطرني أحياناً للهروب من البيت واللجوء لتعاطي الخمر ، لقد جربت كل أنواع المتع والملذات لكنها لا تسطيع أن تمنحني إلا شعوراً مؤقتاً بالسعادة ، يعقبه كآبة لا أتخلص منها إلا بفقد الوعـي من سكر أو نوم .
حصلت على رقم هاتف الداعية جلسنا مراراً نحتسي القهوة كان طلبي الوحيد منه أن يتحدث وأنا أسمع ، فتنقضي ساعة وربما أكثر ، لا يذكر فيها أحد بسوء ، بدأ قلبي يرتاح قليلاً ، ذهب الضيق ، أمسى لي مواعيد مع ذلك الداعية ، أحس فيها أني محلق في السماء ، وهو لايفتأ من تذكري بموضوع الصلاة بطرق مختلفة ، وفي إحدى الليالي كانت ممطرة وصوت الرعد يصم الآذان اتصلت به ، لم يرفع سماعة الهاتف ، انتابني قلق عليه حاولت الاتصال أكثر من ثلاث مرات ، ثم اتصل بي ، وأخبرني أنه كان يؤدي صلاة العشاء جماعة ، عرضت عليه الحضور لشرب فنجان قهوة ، قبل الدعوة .
فحدثني قصة عن أحد الصالحين بعدما تلا قوله تعالى [ أما آن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله] ، يالله ، إن ماكنت أشعربه من قبل متعة عقلية ، أنا الآن مطالب بعمل ، قلت له بلى ورب الكعبة علمني الوضوء والصلاة ، فجلسنا نتدارس ذلك ، ثم عرج على قصة من قتل تسعاً وتسعين نفساً ، وقال حتى لا يغلبك الشيطان ويعيدك لما كنت عليه بدل مكانك .
في اليوم التالي ذهبت لمكان العمل وقدمت استقالة ، وأخليت السكن ، ورحـلت لمدينة أخرى هي مدينتكم ، وقد ودعني وزودني بأرقام هواتفكم .