هذه المرأة

منال علي بن عمرو - الإمارات دبي

[email protected]

 في طفولتي كنت دائماً أسمع عنها بين جلسات النساء. كل مساء نساء الفريج (الحي) يجتمعن عند الدجة (الدكة) مع دلة القهوة وصحن الرطب أوطبق الحلوى العمانية. كان اسمها يعبر هكذا بين الأحاديث والثرثرات والنميمة...

" فلان سار لها!"...

" هيه تصدقين حتى فلان يبي يسير لها!...

" يمدحونها...".

 وحتى تلك الشاشة العجيبة التي كانت مخبأة في صندوق خشبي له أبواب. ويكون يوماً يشبه العيد إذا فتحت تلك الأبواب, فلا أذكر أني أتحرك من أمام هذا الصندوق حتى تقفل أبوابه. كنت أشاهد الأغاني الجميلة, وامرأة أخرى طويلة جداً, بيضاء جداً, شقراء جداً تغرد بصوتها:

"أنا إللي باعوني أنا... دينار باعوني أنا..."

كنت أعتقد أنها هي هذه المرأة التي يذهب لها الرجال. فبمجرد ظهورها يجتمع كل من في البيت مندمجين مع الأغنية، أو مع المطربة، لا أدري.

وتمر الأيام واسم هذه المرأة يتردد في مدرستي بين طيات كتب التاريخ والأدب والبلاغة, بين تضاريس خارطة الوطن العربي. كنت دائماً أتخيلها. كنت أتساءل هل سأراها يوماً؟

ثم بدأت موجة الفيديو. أذكر أنني كنت أذهب مع الخادمة للبريد لتضع رسائلها, وهناك أنتهز فرصة انشغالها مع من تلتقي من خادمات, أترك يدها وأذهب لأحملق في (بوسترات) محل الفيديو المجاور للبريد. كانت المسرحيات الكويتية تجذبني كثيراً, ففيها أجدهم يتكلمون عن تلك المرأة, وبكثرة, وأحياناً بأسلوب غير لائق بما يفرضه النص من أجل الضحك بفلوس. ولكنني كنت استمتع لمجرد ذكرها, لمجرد سماعي لتلك النوعية من الموسيقى, فأتخيلها مثل تلك السيدة في الصندوق ذاك, جميلة جداً.

في المدرسة لم يظل أحد من الطالبات لا يستمع لتلك المواويل الحزينة, الرومنسية, الصادقة الباكية, بحكم أنها فترة مراهقة, وبحكم أنها فترة تكوّن جنين المشاعر وصراعه مع مجتمع لا يدرك, لا يفهم, معنى الحب. فكان التعويض الوحيد هو ما يصلنا من أشرطة مسربة وحفلات غير واضحة, من مواويل وأغنيات تشبه تلك المرأة إلى حد كبير.

كنا نجلس في وقت الاستراحة (الفسحة) على كرسي إسمنتي متراصين. بصراحة لا أدري من الذي اقترح وجوده فهو لا يمت للراحة بصلة! كان موقعه بين أشجار حديقة المدرسة وفراشات الطهارة. وكانت عصافير كثيرة تلتقط ما يتساقط من وجبة الفلافل الجافة التي علمت مؤخراً أنها ما زالت متوفرة في المدارس. كنا نتابع كل هذا والمسجل الصغير (طبعاً كان يُمنع إحضاره ولكن... ) يواصل بثه لتلك الأغنيات التي تأخذني إليها تلك المرأة, والتي تجعلني أفكر مرة أخرى بملامحها وبما فيها من أسرار وبأشياء كثيرة.

علمت خلال هذه الفترات أن والدها كان شريراً جداً ومجنون جداً. وفهمت أن وضعها حرج جداً.

أذكر في إحدى الأيام كان الناس فرحين, و(غلوم) راعي الدكان، الله يرحمه لم يكن كذلك. كان يشتمها ويلعنها ووالدها. لم أفهم شيئاً منه. ناولته نصف الدرهم, وأخذت آيسكريمي وخرجت. في طريقي للبيت تساءلت " شو بلاه غلوم ليش يسبها؟". وحين رجعت علمت أن فرح الناس كان بسبب انتصار المرأة هذه على امرأة تخص غلوم. ابتسمت ولكنني أيضاً لم أفهم. أو تستطيعون القول أنني لم أكترث, فالآيسكريم كان على وشك أن يذوب!

في الصف الأول إعدادي عام1990م قالوا إن والدها الشرير اجتاح الكويت. وقالوا عنها كلاماً وكلاماً... لكنني أبداً لم أكن على استعداد أن أكرهها. ربما والدها لكن هي لا. لم أكن على استعداد أبداً.

من بعد هذا الموضوع تجاهلها الناس تماماً, هجروها هي وتاريخها وأغانيها, كالزوج حين يهجر زوجته, يعلم أنها هناك تنتظره لكنه يتجاهلها. وحتى الإعلام وكأنه متفق على نسيانها أو تعتيمها... وحتى أفلام المسرحيات لم تعد نقية كما كانت. تشعر أنها مسرحيات كتبت لتشتمها, لتهين أطفالها, وتجرح نساءها. حزنت عليها كثيراً إلا أنني انشغلت بأشياء كثيرة, بالثانوية وأحلام اليقظة والجامعة. لكنها دائماً كانت هناك. بعض النساء لا يفارقن مخيلتك. مهما فعلت أو التهيت.

وفجأة أراها تحاكم, تعاقب, تقتل ببطئ, يخذل تاريخها, وتمزق عراقتها بحجة أفعال والدها الشرير. فجأة أراها لأول مرة تبكي وأبكي أنا معها.

خذلوها جميعاً. انتهكت أمامهم بابتسامة باردة وتصفيقة حارة, وتصفير حاد, وإعلام منافق, ملفق. "نحن نفعل هذا من أجل مصلحتها!"... مزقوا ثوبها ووشموا على صدرها علمهم. وسكبوا على شعرها ما تبقى من نبيذهم. فرحة انتصار عليها لا على والدها. فكلنا نعلم أنه لم يكن هدفهم... فهي, هذه المرأة كانت هدفهم.