أو كأنه حصار
يسري الغول
*أختنق ...
الأرض بداخلي تنصهر، تتمرغ في وحلها، كأنه بركان عظيم يتكاثف أمام طوفان الموت. أرتطم في حلقي وجوعي يصدمني، يفجر ينابيع العطش. بينما يسافر الماء مع اليباب. كل ما حولي ظلام دامس، وكمقطع من قصيدة تبدأ معدتي في الصفير، تنادي وتنادي، لحظتئذ أسمعها كصرير ليلة كابية السواد، تدفع من بداخلها إلى الانفجار، الاختناق حتى الهذيان.
أذوب ...
كأنني جائع، كأنني أختنق، أو كأن الأرض ما عادت تحملني. فضاء يسافر بي إلى أفق صحراوي رهيب، صحراء من السحب الغامقة، لكنها كغبار ينزف دون أن تسقط معها طائرتي التي تقلني وأقلها، داخل تلك الأرض الصحراوية القاحلة هواء متسكع يفر كمجنون أمام تلك السفينة الهوائية العجيبة، تفر كمجهول تطارده قرية بحثت عن غريمها لعقود طويلة من الزمن، وها أنا ذا في أرض الله الصحراوية ذات الفضاء الخانق، أمامي اللاشيء وحده، أمامي الفراغ وأغنية أحبها، تحيطني أسيجة من جنون. الطائرة تغرق في بركان من جوع، وأنا أتيه على أعتاب قصيدة تتهادى مع صوت رنان. أتنفس الصعداء، أحقاً أنني خرجت الآن، أو قبل الآن بزمن بعيد، أحقاً أن الأرض ما عادت تلك التي وطأتها لوقت قاتل، حقير، أحقاً أن الأرض ما عادت صحراء قاحلة هذوت معها لشهور عجاف، يراودني سؤال حد الاختناق: كيف خرجت؟! وهل سأفكر بالعودة إليها مرة أخرى؟ ولا ادري بماذا كنت أفكر حين راودتني ( إليها ) تلك؟
***
سألتني يوماً حبيبتي:
- لماذا ستتركنا؟
- .............
- وهل ستعود لو خرجت قدماك من غزة؟
- نعم سأعود، لكن لا ادري متى؟
- أقسم بأنك لن تعود حتى يعود اللبن إلى ضرع ناقتنا العرجاء؟
تبكي وأبكي حزناً على أرض تمرغت في أوحال الموت ....
***
تعاريج ترسم ظلها بنفسها داخل تلك الجدارية البائسة، وفي الطائرة تلفاز يعرض شيئاً من جنون، أنظر إلى البقاع التي أصبحت بحجم عمري القصير، بألوانها الغريبة، الفاقعة والواهية، المحدودبة والمتعرجة، المستطيلة والمربعة، والطائرة تستفزني فتتدحرج باتجاه الشمال، بقاع بحجم بيتي الواطئ، المحطم. تحطمني الجدارية فائقة الحزن. خرجت وخرجت روحي، الأرض بداخلي تنصهر، وانصهرتُ حتى وصلت حدود الطائرة البعيدة. كم من الوقت مضى حتى خرجت من سجني المفزع. وتجيبني زوجتي التي ولجتها بعد ذلك الحوار العريض:
- لقد مر عام على الحصار.
- نعم، لكنني سأسافر.
- هل ستتركني؟
- .............
- بداية الأمر كنت حبيبة لك، لكننني الآن زوجتك.
- أعلم ذلك
- ولمن ستتركني ....
- ...................
- ولمن ستترك ذلك الجنين البائس في أحشائي.
- سأرسل لكما عندما أصل بلاد الله الواسعة.
- وهل تظن أنه من الممكن لنا أن نخرج نحن أيضاً؟
ويمر عام كألف عام، دون أن أسافر....
***
كصرير ليلة حمقاء أعلن الصوم، وأرفض كل ما تحضره المضيفة الحمقاء أيضاً، أعلن الحداد على رفاق تركتهم في أزقة تحاصرها كل تهاويم الأرق، وزوجة كرهت حياتها داخل جدراني، و (طاولة الزهر)، وكل تعاليم الإنجيل ...
تحضر المضيفة بوجهها الرقيق، تحمل بين يديها كأساً من نبيذ، أسكبه على أرض الطائرة، ألعن جمالها الفتان، تستهويني فأطلب كأساً من ماء.
أسأعود ( إليها ) تلك؟ هل لي أن أفكر بالفرار من الفرار؟ خرجت فجراً، أمامي عربات متهالكة تجر بداخلها أنفاس عتيقة، أنفاس تلهث كقطيع ضالة عن حتفها، وأنا أتيه عن ولدي بعد أعوام من الإغلاق، الإغلاق جزء من حياتنا، أي إغلاق وليس لي سوى ذلك السجن المفزع. المضيفة من جديد تهتف:
- الطائرة ستصل بعد لحظات، برجاء ربط الأحزمة جيداً والامتناع عن التدخين.
أطفئ غضبي، أقلع عن التفكير، لن أسمح لنفسي ولو للحظة واحدة أن أعود إليها تلك. تلك التي تحاصرها الشمس بظلالها كل لحظة، لن أعود إليها ولتكن من تشاء.
*عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين
غزة – فلسطين