(هو) المجنون
قصص قصيرة جداً
يوسف حامد أبو صعيليك
[email protected]
- 1 -
لن يعد (هو) يحفل بتلك الكائنات التي تسير على سيقان طويلة ، وهي تراقبه بفضول
شديد ، ولا بأصابع أيديها وهي تشير إليه ، ........ تضحك بغباء ساخرة ، لم يعد يحفل
بـ " لا وجودهم " الذي أسموه وجوداً كما كان يصرخ ذات يوم .
قال أحدهم بتأمل :
- يبدو
أن ( هو ) نقطة الإلتقاء بين تألق الفكر .......... والجنون .
- 2 -
(الجزيرة ) هي المكان الوحيد الذي يجد فيه (هو ) الأمان والطمأنينة بين صراخ
السيارات وعويلها .
تشابه الاسم والمكان جعل (الجزيرة ) مكانه المفضل الذي يشده إليه ، ربما لأنه مكان
معزول يحيطه الأسفلت والسيارات من جميع الاتجاهات ، مكان منبوذ من الناس اختاره (
هو ) المنبوذ أيضاً ، فكما أن الجزيرة مكان منعزل تحيط به المياه من جميع الاتجاهات
، كذلك هي ( جزيرته ) ، مكان آمن لا تطاله شرور البشر ، حتى وإن كانوا هم من أوجدها
، ولكن ليتركوها لـ(هو) فقط ، ليراقب منها الصراع الغبي على الحياة .
- 3 -
(الجزيرة ) عند ( هو ) عالم الالتقاء بصرخات الآه المقهورة المصفدة ، كي لا تقوم
بتعرية العالم من أستاره التي يختبئ تحتها ، فتفضح زيفه الممقوت .
- 4 -
غير أن ( هو ) يثير الدهشة باتخاذه صديقاً آخر بالإضافة إلى (جزيرته) ، وبيت القصيد
هنا أن هذا الصديق لا يكف عن الثرثرة والتحدث عن زيف العالم المتحضر ، مجملاً صورته
بادعاءاته الكاذبة ، إما مفاخراً ، أو ناقلاً ، فمذياع (هو) الصغير لا يفارق أذنيه
أثناء سيره القلق على جزيرته .
- 5 -
(هو) لا يحفل بادعاءات دارون ونظريته ، فبالرغم من إنكاره لهذه النظرية ، إلا أنه
في لحظات النشوة على جزيرته يرى أن سلوك القردة أكثر رقياً من سلوك الكائنات طويلة
الساقين .
بل إن ( هو ) يضحك أحياناً من غباء أديسون لأنه أراد أن يضيء الطرقات لهذه الكائنات
، ذلك أن أديسون بعمله هذا قد أفقد الطبيعة عذريتها ، وأتاح الفرصة لهذه المخلوقات
أن توقظ الليل ، وتعبث بكبريائه ونقائه ، وتزعج هذا الكوكب أثناء راحته الليلية ،
وتفرض عليه رؤية هذه الكائنات العابثة حتى في الليل .
- 6-
ذات ليل طرق (هو) باب جاره ، وعندما فتح جاره الباب بادره (هو) سائلاً:
- هل
أجد لديك أطلساً يا جاري العاقل ؟.
ضحك جاره من جنونه ، وغاب للحظات ثم عاد ومعه ما طلبه (هو) وقال :
- ماذا
تريد بهذا الأطلس يا جاري ؟.
فأجاب (هو) :
- ولماذا
وجد الأطلس ؟!، ...... أريد أن أرى إلى أين وصل تمزق القارات اشمئزازاً ونفوراً من
حكمة العقلاء .
فضحك جار (هو) ببلاهة وقال:
- ألن
تشفى من هذه الخزعبلات ؟.
قال وهو يقلب صفحات الأطلس :
- ربما
......... عندما تتخلصون من العفن الذي يسكن رؤوسكم .
لم يفهم جار (هو) ما قاله ، فهز رأسه أسفاً لجنون (هو) ثم أغلق الباب .
في اليوم التالي ركب (هو) حماراً ، ووضع فوق رأسه طربوشاً ، وأخذ علبة معدنية من
كومة القمامة ، وأخذ يضرب عليها جاعلاً منها طبلاً ، وأخذ ينادي :
- يا معشر العقلاء ، .... كاذب من يقول إن القارات تتزحزح بسبب انزلاقات القشرة
الأرضية ، إنما يأتي تزحزحها نتيجة لانزلاق أخلاق المتصفين بالعقلانية ، .. أيها
العقلاء .... مخطئ من قال غير ذلك ، .... مخطئ .
أخذ سفهاء الحي وصبيانه يجرون خلف حمار (هو) ، ويضحكون مما يقوله،فاستدار (هو)
بحماره نحوهم ، وأخذ ينادي باشمئزاز:
- لم أعد أحتمل رائحة قلوبكم المتعفنة ،....... أيها العقلاء.
ثم استدار وولى هارباً والصبية يلاحقونه .
- 7 -
لقيه أحد جيرانه ، وهو ينحني على الأرض ، ويلصق أذنه اليمنى بالتراب بطريقة أثارت
ضحكه .
قال جاره :
- ماذا
تفعل ؟!.
قال (هو) غير مكترث لوجوده :
- كما
ترى ..... أتنصت .
سخر جاره وقال :
- ماذا
ستكتشف اليوم أيها العبقري ؟.
قام (هو) وأسند ظهره للجدار ، وقال وهو ينفض التراب عو ملابسه :
- أريد
أن أستمع لنبضها المتعب ، . ... نبضها الحزين ،أيها العاقل .
- 8 -
خرج (هو) من بيته وهو يشد كمي قميصه بأسنانه بغيظ ، أخذ يجري برعب وينادي :
- الحريق
آت ، ....... الأطلس احترق ، ..... لقد احترق ، ... أين الماء ....... أحضروا الماء
.
صمت للحظات ثم عاد يصرخ :
- الغيمة
تاهت في الأجواء .
ضحك أحد جيرانه الذين اجتمعوا على صوته وقال :
- ويح
ابن أم المجنون ،....... صار يتكلم سجعاً .
ازداد صراخ (هو) :
- اصمتوا
،........ لا أريد أن أسمع ، لا أريد أن أرى ، أكاد أجن ..... أكاد أجن .
أخذ المجتمعون يضحكون ، ويضربون كفاً بكف :
- المجنون
يكاد يجن ، ويح أمه ما أشقاها .
- 9 -
أخذت السيارة البيضاء تنهب الأرض نهباً ، شاقة لها طريقاً بين صفوف السيارات ،...
ثم توقفت أمام بيت (هو) ، نزلت منها ثلاثة أشباح بملابس بيضاء ، ثم دخلت بيت (هو) ،
وخرجت بعد دقائق وهي تجر (هو) مقيد اليدين ، كان (هو) يصرخ بأعلى صوته :
- ماذا
تريدون مني أيها المتعقلون ؟، .......... ماذا تريدون ؟، ثم كيف تدخلون بيتي بهذه
الطريقة ؟، ..... إلى أين ستذهبون بي ؟.
أغلق أحد ألأشباح باب السيارة الخلفي على (هو) ، بينما بقي الشبحان الآخران مع (هو)
، ثم أخذت السيارة تشق طريقها مرة أخرى .