فاتيمه.. فاتيمه
فاتيمه.. فاتيمه
محمد صباح الحواصلي
كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة
تموز يستشيط حراً, بل يكاد يخرج من ثوبه, وطرقات دمشق متوترة متوفزة, والسابلة وجوهها مربدة لم يبرحها بعد الذهول الغاضب الذي باغتها منذ أيام, وثلة من النسوة ملفعات بملاءآت زم سوداء يسرن على عجل وبحذر وأرتباك عبر طلعة زقاق رامي عند "موقع الدرك", ويلعنَّ الساعة التي اضطررن فيها للخروج من بيوتهن. الكبيرات منهن, بأبدانهن المترهلة, يسرن بإجهاد على الطرفين, وقد حجبن وسطهنَّ الصبايا بأجسامهنَّ الناهضة النحيلة الممشوقة, البيضاء مثل قلب النهار – عين الله تحميهن وتحرسهن.
ليس بعيدا عنهنَّ, بدا لهنَّ, أنفار من عساكر الكتائب الفرنسية, رابضون منتصبون بأجسامهم الطويلة النحيلة وبشرتهم السوداء بلون الفحم, وعيونهم الوقحة كبيرة وجائعة. ولأن ظهيرة تموز المبهرة لم تستطع أن تكشف بعضا من وجوه الصبايا وملاحتهنَّ, فقد انغرزت عيون العساكر في وجوههنَّ ممعنة بشبق محاولة أن تبل أوار عطشها ولكن هيهات لها أن تصل إلى وجوههنَّ المحجوبة خلف مناديلهنَّ السميكة. رأت النساءُ العيونَ مشرعة تجاههنَّ فضاقت حلقتهنَّ, والتحمْنَ أكثر على بعضهنَّ, الصبايا في الوسط والكبيرات حولهنَّ, وأطبقتْ راحات أيدي الكبيرات على أيدي الصبايا, بخوف وحرص, همسَتْ إحدى الكبيرات في خشية وترقب:
"السنغال.." وتابعت: "ضبو عليَّ وخلي راسكم لتحت.."
خطوهنَّ لم يعد مستقيما, بل جنح مبتعدا عن العساكر حتى بلغْنَ نهاية الرصيف. كان الصمت لحظتها متوفزا, عاجزا, وشفاههنَّ - بإيعاذ من العمة الكبيرة - تلهج بآية الكرسي بارتجاف. استطاع الصمت بقوة أن يوقر أنفاس العساكر السنغال في أذان النسوة ومكامن خوفهنَّ, كما استطعم العساكر السنغال طعم اللحم الأبيض البض في أفواههم فلاكوه بألسنتهم وأسنانهم الناصعة, وعيونهم الواسعة كعيون الثيران. خطا أحدهم قريبا منهنَّ, فزدادت ضربات قلوبهنَّ, وسمعْنَ وقع حذائة على الرصيف يتخلل صوت أنفاسه, ثم توقف ليس بعيدا عنهنَّ, وأطلق كلماته, كفحيح خشن يخرج من قاع بئر جاف:
"فاتيمه.. فاتيمة.."
يا لطيف ألطف.. ابتعدَتْ النسوة في سيرهنَّ نصف الدائري عن العسكري, والعساكر من خلفه, وعدن إلى الرصيف, وقد أتعبتهن طلعة زقاق رامي..
"أمشوا بسرعة.." قالت العمة.
"انقصفت ركبي.." قالت إحدى الصبايا.
"ياالله يا بنات عجلو.. خلي هاليوم يمضي على خير."
الطريق مايزال طويلا.. إنه الطرف الآخر من شارع جمال باشا, قبل دار المشيرية. عجلتْ النسوة من خطوهنَّ وقد انهكهنَّ التعب.
قالت أصغرهنَّ: "انقطعت انفاسي.. يا عمتي."
"ياالله راح الكثير ولم يبقَ الا القليل.."
"منين لم يبقَ الا القليل, لم نصل للقنوات بعد."
"بين القنوات وباب السريجة خطوتين.."
"ولي على قامتي آل خطوتين!"
انفتح الطريق أمامهمنَّ مع ظهور جامع عيسى باشا على الناصية الواصلة لجادة الدرويشية. بطأت النسوة من سيرهن, وقد تمكن منهن الإطمئنان مع خروج المصلين من الجامع عقب انتهاء صلاة الجمعة. تنحت النسوة قليلا عن جماعات الرجال, وقد تناهى لهن لغطهم الغاضب وهم يشتمون الفرنساويين والجنرال "غورو", وسرن في أدب ورؤسهن خفيضة. مشين طويلا وصرن, بعد خوف, يتندرن بضحك مكتوم على العسكري السنغالي.. قالت صغراهن:
"قال.. فاتيمه.. فاتيمه.. كلنا فاطمة عندهم.. أرعبتني عيناه التي مثل عيون النمر!"
قالت العمة غاضبة: "ليش تطلعتي علي وجهه؟"
"ماحس عليَّ وأنا عم اتطلع عليه.."
"ولي على كسرتكم مابتسمعو الكلام.."
وما أن أطلت جادة باب السريجة حتى ولجن إحدى حاراتها فاحتوتهن رطوبة الظل, وروائح طبخ وبطيخ وعطونة موشومة في أركان الحي القديم, وقد شملتهن بيوت الحارة الملتحمة, المتداخلة, المتراكبة.. المتعانقة بحب وخوف. وكان صوت العمة يغيب مع البعد وهنَّ يوغلنَ في ظلال الحارة..
"أنا ماقلت لكم لاتطلعوا عليهم.. أوعو تفتحو السيرة لأبيكم.. مفهوم."
وباغت الصبية شعور مبهم, مؤلم ولذيذ في آن معاً, فيما كانت تسترجع بخيالها نظرة السنغالي إليها التي تشبه نظرة النمر."