وَلانَ عُمَرُ
شيماء محمد توفيق الحداد *
( 1 )
تأخَّرَ الوقتُ وَنامَ النَّاسُ ، وَهجعتِ السَّباسبُ وَالقفاري وَعمر لا يزالُ مستيقظاً صاحياً، اقتربتْ منهُ زوجتُهُ وَقالتْ:
- ألنْ تنامَ يا عمر؟!..
زمجرَ في غلظةٍ وَصاحَ:
- دعيني وَشأني وَاذهبي أنتِ لتنامي منْ وجهي!..
هزَّتْ كتفَيها بِحَيرةٍ ثمَّ مضتْ صامتةً..
كانَ عمر طوالَ سهرتِهِ تلكَ واجماً شارداً يفكِّرُ، يُحَمْلِقُ في الفراغِ وَيتأمَّلُ في ذهولٍ وَيجرعُ الخمرَ بشراهةٍ كبيرةٍ دونَ أنْ يَحِيدَ في أفكارهِ عنِ الموضوعِ المثيرِ الَّذي شغلَ مكَّةَ كلَّها!..
وَأصبحَ الصَّباحُ وَهوَ على حالهِ نفسِها.. وَمرَّتْ زوجتُهُ بجانبِ غرفتهِ وَهيَ تتثاءبُ، ثمَّ نظرتْ إليهِ باستغرابٍ وَصاحتْ بدهشةٍ:
- عجباً!.. عمر!.. ألا تزالُ مستيقظاً؟!..
لمْ يرد عليها، رشفَ شيئاً بسيطاً منَ الخمرِ وَهوَ لا يزالُ في استغراقهِ وَشرودهِ، اقتربتْ منهُ وَهزَّتْهُ قائلةً:
- عمر!.. عمر!.. إنَّني أناديكَ ألا تسمعني؟!..
التفتَ إليها بعينينِ حمراوينِ رهيبتينِ وَهمسَ:
- محمَّد!..
قالتْ:
- محمَّد!.. ما شأنُكَ بمحمَّدٍ الآنَ؟!..
جرعَ نصفَ كوبهِ بينما تابعتْ هيَ متسائلةً بعتابٍ وَقدْ كتَّفتْ يديها:
- لا تقلْ لي إنَّكَ سهرتَ اللَّيلَ كلَّهُ تفكِّرُ بمحمَّدٍ!..
وَجرعَ النِّصفَ الباقيَ ثمَّ قالَ بهمسٍ:
- أريدُ أنْ أقتلهُ!..
هتفتْ صارخةً:
- بِمَ تهرفُ؟!.. هلْ جُنِنتَ؟!..
صبَّ كوباً آخرَ وَجرعهُ بسرعةٍ كبيرةٍ ثمَّ نهضَ وَتقلَّدَ سيفَهُ صارخاً مهتاجاً:
- أريدُ أنْ أقتلَهُ!.. سفَّهَ أحلامَنا وَعابَ آلهتَنا وَفرَّقَ كلمتَنا وَ.... إنَّ القضاءَ عليهِ باتَ أمراً واجبَ التَّنفيذِ!..
وَضربَ على صدرهِ قائلاً:
- وَأنا لها يا امرأة!..
اقتربتْ منهُ، أمسكتْ بكتفيهِ وَهتفتْ:
- اسمعني!.. إنَّكَ لنْ تفعل!.. هذا خطيرٌ جدّاً وَأنا أخافُ عليكَ!..
نظرَ إليها ساخراً وَقالَ وَهوَ يدفعها جانباً:
- هيَّا!.. ابتعدي عنْ طريقي!..
صرخت متألمة ، لكنَّه لم يعبأ بها، وَمضى خارجاً، نهضتْ زوجُهُ وَقالتْ بخوفٍ:
- وَاللَّاتِ وَالعُزَّى إنَّ جنوناً ما قد أصابهُ!..
وَضربتْ على جنبها قائلةً:
- يا لعقولِ هؤلاءِ الرِّجالِ!..
******
( 2 )
سارَ عمر بخطواتٍ واسعةٍ وَاعتدادٍ فائقٍ، لمْ ينكرْ أنَّهُ أحسَّ بشيءٍ منَ الخوفِ، بَيْدَ أنَّهُ حثَّ مشاعرَ الحقدِ ليمضيَ قُدُماً وَدونَ تردُّدٍ، وَقدْ حدَّ سيفَهُ وَشحذَ همَّتَهُ وَاختبرَ شجاعتَهُ وَإقدامَهُ فلماذا يخافُ؟!.. أبقيَ شيءٌ بعدُ؟!..
وَالتقى في الطَّريقِ نُعيمَ بنَ مسعودٍ [1] ، وَرأى نُعيم الشَّرَّ بادياً في عيني عمر وَالإصرارَ ظاهراً في ملامحِ وجههِ فأقبلَ عليهِ وَقالَ:
- إلى أينَ يابنَ الخطَّابِ؟!..
التفتَ عمر إليهِ وَنظرَ نحوهُ شزراً وَهدرَ:
- وَما شأنُكَ أنتَ يا نُعيم؟!..
صعَّدَ نُعيم بصرَهُ في عمر وَقالَ دونَ اكتراثٍ لغضبهِ وَهياجهِ:
- أراكَ متقلِّداً سيفَكَ مغيِّراً سِحنتَكَ.. ماذا تنوي أنْ تفعلَ؟!..
صاحَ عمر متجاهلاً:
- دلَّني على دارِ الأرقمِ ويلكَ!..
هتفَ نُعيم كَمَنْ عثرَ على كنزٍ نادرٍ:
- آها!.. أنتَ وَاللهِ تريدُ قتلَ محمَّدٍ بنِ عبدِ اللهِ.. أليسَ كذلكَ يا عمر؟!..
ضغطَ عمر على أسنانهِ وَصاحَ:
- بلى وَاللهِ!.. فقدْ فرَّقَ كلمتَنا، وَسبَّ آلهتَنا، وَأرادنا أنْ ندخلَ في دينهِ، وَساوى بينَ العبيدِ وَالسَّادةِ، وَ....... ولماذا تنظرُ إليَّ هكذا يا نُعيم؟!..
قالها عمر مستنكراً مندهِشاً، فقالَ نُعيم ساخراً:
- هكذا إذاً!.. هه!.. أَتظنُّ أنَّ بني هاشمٍ وَبني زُهرةَ تاركوكَ تفعلُ هذا دونَ أخذِ الثَّأرِ منكَ يا عمر؟!..
وَدبَّ في قلبِ عمر دبيبٌ منَ الخوفِ، وَأحسَّ بالقشعريرةِ تَلْكُزُ جسدَهُ وكأن هذا الأمر الغريب لم يخطر على باله، لكنَّهُ رغم ذلك صرخَ قائلاً:
- لِيَكُن!..
- سيقتلونكَ يا ذكي!..
هدرَ عمر بغضبٍ واضعاً قبضتَهُ على سيفهِ:
- أتريدُ أنْ تفلَّ منْ عزمي ويلكَ؟!.. أتُراكَ قدْ صبأْتَ أنتَ أيضاً؟!.. لَأبدَأنَّ بكَ قبلَ محمَّدٍ!..
وَقهقهَ نُعيم بشدَّةٍ، فاهتاجَ عمر وَاشتدَّ غضبُهُ وَصاحَ كأسدٍ جريحٍ:
- ثكلتكَ أمُّكَ ويلكَ!.. أتهزأُ بي؟!.. لأقتلنَّكَ حالاً!..
وَجرَّدَ سيفَهُ منْ غمدهِ فأسرعَ نُعيم قائلاً – بشيءٍ منَ السُّخريةِ - :
- افعلْ ما بدا لكَ، وَلكنَّي نسيتُ أنْ أخبرَكَ بأمرٍ مهمٍّ..
نظرَ إليهِ عمر مستفهِماً، فتابعَ بتهكُّمٍ:
- إنَّ أختَكَ وَزوجَها قدْ أسلما..
- !!!!!!!!!!!!..
- وَالأَوْلى بكَ أنْ تُؤدِّبَهما قبلَ أنْ تقتلَ محمَّداً.. فلقدْ خالفاكَ ديناً وَعقيدةً وَ..... أسلما!..
صرخَ عمر:
- ألمْ أقلْ إنَّكَ تريدُ أنْ تفلَّ منْ عزيمتي؟!.. تبّاً لكَ!.. كاذب!.. كاذب!..
تابعَ نُعيم بلا اكتراثٍ محوِّلاً نظرَهُ عنْ عمر:
- وَتابعا محمَّداً على دينهِ..
وَانفلتَ عمر ذاهباً إلى بيتِ أختهِ وَهوَ يرعدُ وَيرغي وَيُزبدُ وَيهدِّدُ وَيتوعَّدُ!، بينما همسَ نُعيم باسماً:
- الحمدُ للهِ!.. كانَ اللهُ في عونكما يا أخويَّ!..
******
( 3 )
- ابنةُ الخطَّابِ تخونُ أخاها وَتؤمنُ برسالةِ محمَّدٍ!.. لا كنتِ يا فاطمة إنْ فعلتِ ذلكَ حقّاً!.. سألقِّنُكِ درساً قاسياً ثمَّ سأصفِّي حسابي معَ محمَّدٍ هذا!.. تبّاً!.. أصارتِ الحالُ إلى هذا المآلِ؟!.. حسنٌ أيُّها الصَّابئَينِ!.. سأريكما منْ يكونُ ابنُ الخطَّابِ عمر!..
وَاندفعَ إلى داخلِ البيتِ وَأخذَ يتلفَّتُ في أرجائهِ باحثاً عنْ أختهِ وَزوجِها.. وَفجأةً سمعَ صوتاً نديّاً رقراقاً عذباً يتحدَّثُ بحديثٍ غريبٍ لمْ يفهمْهُ عمر لبعدهِ عنهُ، بَيْدَ أنَّه توقَّفَ وَشعرَ بحبَّةِ قلبهِ تهتزُّ بمشاعرَ جديدةٍ لمْ تألفْها قسوةُ عمر منْ قبلُ، وَأنصتَ عمر فسمعَ رغمَ تقطُّعِ الصَّوتِ:
- { طـ... ـه.... مـ... ـا أنز... لتشقى... تذكرةً... يخشى... ممَّنْ خلـ......... }.
وَلانتْ ملامحُ عمر وَانكسرتْ شرَّةُ غضبهِ وَهدأتْ سورةُ انفعالهِ، وَأوشكَ أنْ يبكي..
- يبكي؟!!!!!..
وَنفضَ عمر رأسَهُ بعنفٍ، وَلمعتْ في عينيهِ شهوةُ الانتقامِ منْ جديدٍ، وَتراقصتْ أحلامٌ دمويَّةٌ أمامَ ناظريهِ؛ إنَّ عمر الطَّاغيةَ الجبَّارَ القاسيَ لا يصحُّ أنْ يخورَ وَيستسلمَ هكذا!..
وَاندفعَ إلى تلكَ الغرفةِ مرغِماً الصَّوتَ الشَّجيَّ أنْ يكونَ دليلاً لهُ..
وَوصلَ إلى مرادهِ، وَعالجَ البابَ ليدخلَ فإذا هوَ مغلَقٌ بإحكامٍ، وَفكَّرَ قليلاً؛ إنَّ اقتحامَ البيتِ سهلٌ لكنْ ماذا عن البابِ المغلَقِ دونهُ ؟!.. وَتضاعفَ غضبُهُ، وَتعاظمتْ ثورتُهُ، وَأمسى مرعِباً للغايةِ، وَصرخَ بصوتٍ هائجٍ عانقَ هديرَ الرَّعدِ وَنافسَ تلاطمَ الأمواجِ:
- افتحي يابنةَ الخطَّابِ يا صائبة!..
سمعَ صوتَ أختهِ يقولُ هامِساً:
- هذا وَاللهِ أخي عمر!..
وَأردفَ صوتُ زوجها يقولُ لشخصٍ ثالثٍ معهما:
- لتختفِ أنتَ حالاً يا........ .
وَلمْ يتبيَّنْ عمر الاسمَ لكنَّهُ صرخَ أكثرَ وَهوَ يدقُّ البابَ بعنفٍ:
- افتحي يا فاطمة ويلكِ!.. أتريدينَ منِّي أنْ أكسرَ البابَ؟!..
وَفتحت فاطمة البابَ وَقالتْ بهدوءٍ:
- ماذا تريدُ؟!..
دقَّقَ النَّظرَ في وجهها مستغرِباً؛ صحيحٌ أنَّ آثارَ الانفعالِ تخالطُ جمالَهُ وَبهاءَهُ، لكنْ... أينَ الخضوعُ لهُ وَالخوفُ منهُ؟!.. وَدلف إلى الداخل وهو ينظرَ إليها وَإلى زوجها نظراتٍ رهيبةً وَهدرَ:
- ماذا كنتما تقولانِ؟!..
******
( 4 )
جلسَ النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – وَاستندَ إلى جذعِ شجرةٍ علَّهُ يحملُ عنهُ بعضَ ما يثقلُ صدرَهُ الشَّريفَ منْ همومٍ وَمتاعبٍ.. ما لقريشٍ تكذِّبهُ هكذا وَهوَ ابنُها الصَّادقُ الأمينُ؟!.. أليسَ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – واحداً منهمْ وَفيهمْ؟!.. أليسَ النَّسمةَ القدسيَّةَ إليهمْ؟!.. أليسَ رسولاً منْ عندِ اللهِ تعالى لهمْ؟!.. آه!..
وَرفعَ النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – رأسَهُ إلى السَّماءِ وَهمسَ بتضرُّعٍ وَخشوعٍ:
- اللَّهمَّ!.. (( اللَّهمَّ أعزَّ الإسلامَ بأحدِ العُمَرينِ؛ بعمر بنِ الخطَّابِ، أوْ بعمرو بنِ هشامٍ ))، بعمر بنِ الخطَّابِ.. أوْ بعمرو بنِ هشامٍ.. يا ربُّ!..
******
( 5 )
- خسئتِ يابنةَ الخطَّابِ يا كاذبة!..
قالتْ فاطمة بثباتٍ::
- كلا ما كذبتُ عليكَ يا أخي!..
صرخَ عمر باهتياجٍ:
- أيُّ حديثٍ هذا الَّذي كنتما تتكلَّمانِ فيهِ؟!..
- .....................
وَهتفَ عمر بحسرةٍ:
- عمر!...
- وَاتَّبعتِ محمَّداً!..
هتفتْ فاطمة:
- عمر!.. اهدأْ!..
وَصفعها بقوَّةٍ لتتناثرَ دماؤُها الزَّكيَّةُ فيأتي زوجُها – سعيد ابنُ زيد – ليبعدَهُ عنها فيهجمُ عمر عليهِ وَيطرحهُ أرضاً وتحاول هي أن تدفعه عن زوجها.
وَترى فاطمة ذلكَ، وَتُبصِرُ ظلمَ أخيها، فيتعاظمُ فيها شعورُ الحزنِ، وَيبرحُ بها الألمُ مبرحَهُ، وَيعزُّ عليها الصَّمتُ وَالرُّضوخُ، فتثورُ مرَّةً واحدةً وَتصرخُ:
- نعم!.. قدْ – وَاللهِ – أسلمتُ وَزوجي معَ محمَّدٍ – صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – للهِ تعالى ربِّ العالمينَ، فافعلْ ما بدا لكَ!.. فَوَاللهِ لا أوثرُكَ على اللهِ أبداً وَأنتَ أخي منْ أبي وَأمِّي!..
وَيُصعَقُ عمر وَيُبهَتُ وَيَشتدُّ بهِ الذُّهولُ؛ فاطمة.. المرأةُ الضَّعيفةُ تخاطبُ أخاها الجبَّارَ هكذا؟!.. أهذهِ الَّتي لمْ تكنْ تجرؤُ أنْ ترفعَ رأسَها أمامَهُ أوْ تنظرَ في عينيهِ؟!.. أهذهِ هيَ نفسها الَّتي تقفُ أمامَهُ الآنَ مهتاجةً كاللَّبؤةِ شرسةً كالـ.... كالأسدِ؟!.. أيُّ دينٍ هذا الَّذي جعلَ منها قويَّةً ثابتةً هكذا؟!.. ماذا دهاكَ يا عمر لكي تضربَ أختَكَ بهذا الشَّكلِ؟!.. ألأنَّها أسلمتْ؟!.. ألا يجوزُ أنْ تكونَ – هي المرأةُ الخائرةُ - على صوابٍ وَتكونَ أنتَ – الرَّجلُ القويُّ – على خطأٍ كبيرٍ؟!..
وَطأطأَ عمر رأسَهُ ذاهلاً، ثمَّ رفعهُ ببطءٍ وَقالَ هامساً – بما يشبهُ النَّدمَ - :
- سامحيني يا أختي العزيزة!، لَكَمْ يعزُّ عليَّ أنْ أرى دمكِ الزَّكيَّ يسيلُ..
أجهشتْ فاطمة بالبكاءِ وَقالتْ:
- أنتَ أخي، وَأنا أحبُّكَ.. لكنَّ حبَّ الإسلامِ أقوى عندي منْ كلِّ عاطفةٍ، وَهوَ أغلى على قلبي منْ كلِّ أحدٍ يا عمر!..
وَألفى نفسَهُ صغيراً حقيراً إذْ فكَّرَ بتلكَ العنجهيَّةِ الحمقاءِ وَاستشارَ كبرياءَ قريشٍ الفارغةَ.. وَتذكَّرَ فجأةً أمَّ عبدِ اللهِ؛ تلكَ المرأةَ المهاجرةَ إلى الحبشةِ فراراً بدينها وَهرباً منْ أذى قريشٍ وَبطشِها، تذكَّرَ كيفَ كانتْ تتسلَّلُ على خوفٍ وَقلبُها يكادُ ينخلعُ فزعاً وَإشفاقاً، وَتمثَّلَ صورتَها عندما أرعبها بصوتهِ المتسائلِ عنْ مقصدها، وَأدهشَ نفسَهُ قبلَ أنْ يُدهشَها بجوابهِ اللَّيِّنِ الحزينِ القائلِ: صَحِبَكُمُ اللهُ!.. وَالآنَ.. هلَّا حدَّدْتَ موقفَكَ منَ الإسلامِ كما ينبغي يابنَ الخطَّابِ؟!..
وَالتفتَ إلى أختهِ قائلاً برقَّةٍ::
- أعطني الصَّحيفةَ الَّتي كنتما فيها تقرآنِ..
- ................... .
- لا تخافي!.. لنْ أمزِّقَها.. أعدُكِ بذلكَ..
وَدقَّقتْ فاطمة النَّظرَ في ملامحِ وجههِ، فأحسَّتْ أنَّهُ صادقٌ، وَأنَّ قلبَهُ لا بدَّ أنْ يتطلَّعَ إلى الإسلامِ، فقالتْ:
- وَلكنَّكَ رجلٌ مشرِكٌ نجسٌ، فاذهبْ لِتغتسلَ قبلَ أنْ تمسَّ يدُكَ كلامَ اللهِ تعالى..
ما كانوا أنانيِّينَ؟!!!.. ألأنَّهمْ نشروا هذا الخيرَ في الدُّنيا وَدعوا النَّاسَ إليهِ وَدلُّوا البرايا عليهِ استحقُّوا التَّرويعَ وَالضَّنكَ برأيكَ؟!.. عجباً لكَ يا عمر!.. أهكذا تفكِّرُ وَأنتَ الذَّكيُّ العاقلُ؟!..
وَصرخَ عمر بانفعالٍ:
- محمَّد!.. محمَّد!.. دلُّوني على محمَّدٍ!.. دلِّيني على مكانهِ يا أختي!.. خذني إليهِ يا سعيد!.. ما لكما صامتَينِ هكذا؟!.. أتخشيانِ منِّي عليهِ؟!.. لا تخافا فاللهُ معهُ، شُلَّتْ يدٌ تمتدُّ إليهِ بسوءٍ!.. وَلكنْ.. أينَ هوَ الآنَ؟!.. أينَ؟!..
كانتْ فاطمةُ خائفةً في البدايةِ منْ عاقبةِ إرشادهِ إلى مكانِ الرَّسولِ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – ، بَيْدَ أنَّ عمراً بدا جادّاً صادقاً حريصاً قريباً جدّاً منَ الإسلامِ، وَفوجئتْ بزوجها يخبرهُ عنِ الطَّريقِ إلى دارِ الأرقمِ، ففرحتْ وَرجتِ الخيرَ منْ وراءِ ذلكَ، وَابتسمَ عمر شاكراً وَولَّاهما ظهرَهُ مزمِعاً المضيَّ إلا أنَّ صوتاً غريباً استوقفهُ قائلاً:
- انتظرْ يا عمر!...
- بشراكَ يا عمر!.. وَاللهِ إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – يقولُ: اللَّهمَّ أعز الإسلام بأحب العمرين إليك ؛ عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب ، وَإنِّي لأشعرُ أنَّهُ كانَ يعنيكَ في دعوتهِ..
وَغرَّدتِ بلابلُ الفرحِ في قلبِ عمر ثمَّ طارتْ بهِ وَحلَّقتْ إلى حيثُ مكانِ الرَّسولِ الحبيبِ، الرَّسولِ الطَّبيبِ، محمَّد بنِ عبدِ اللهِ.. - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – ..
******
( 6 )
- قمْ وَانظرْ منْ بالبابِ يا أخي...
- حالاً يا حمزة..
ونظرَ الصَّحابيُّ منَ الكوَّةِ وَاصفرَّ وجهُهُ وَازدردَ ريقَهُ هامساً:
وَعادَ الصَّحابيُّ يرتعدُ فَرَقاً، وَعانقتْ وجهَهُ الأبصارُ، وَتشبَّثتْ بهِ الأعينُ، وَسألَ حمزةُ مستغرِباً:
- ما بكَ يا أخي؟!.. ما الأمرُ الَّذي دهاكَ؟!.. تكلَّمْ!..
همسَ الصَّحابيُّ وَلمَّا تزايلْهُ الصَّدمةُ بعدُ:
- إنًَّـ.... إنَّهُ عمر.... بنُ الـ.... خطَّابِ يا.... يا حمزة!..
وَحوَّلَ كلامَهُ إلى الرَّسولِ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – قائلاً :
- أفنفتحُ لهُ يا رسولَ اللهِ؟!..
وَتشاورَ الصَّحابةُ وَتباينتْ آراؤُهمْ بينَ مؤيِّدٍ لاستقبالهِ آملٍ في إسلامهِ، وَرافضٍ لقدومهِ خائفٍ منْ كفرهِ مشفقٍ منْ نزواتهِ، وَأخيرًا قالَ حمزةُ بثباتٍ وَحزمٍ::
- لِنأذنْ لهُ يا رسولَ اللهِ!.. فإنْ كانَ آتياً لخيرٍ مكَّناهُ منهُ وَإلا.... قتلناهُ بسيفهِ!..
وَوافقَ النَّبيُّ العظيمُ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – ، وَفُتِحَ البابُ، وَدخلَ عمر، وَصافحتْ عيناهُ بشاشةَ الرَّسولِ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – ، وَأحسَّ بمقلتيهِ الحانيتينِ تعاتبانهِ:
- آلآنَ يا عمر؟َ!.. أينَ كنتَ طوالَ هذهِ المدَّةِ؟!.. أينَ؟!.. أفضَّلْتَ أنْ ترتعَ في ضلالِ الكفرِ على أنْ تحلِّقَ في سموِّ الإسلامِ؟!..
وَقالَ عمر:
- يا محمَّد إنِّي.....
وَقطعَ كلامَهُ عندما رأى الرَّسولَ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – قادمًا نحوَهُ، وَأمسكَ النَّبيُّ بتلابيبهِ وَهزَّ هذا الصَّلبَ الحديديَّ بيديهِ – الَّذي غدا كطفلِ يرتعشُ - هاتفاً:
- ويحَكَ يا عمر!.. أما آنَ لكَ أنْ تُسْلِمَ؟!..
ردَّ عمر بانفعالٍ وَاندفاعٍ:
- يا محمَّد.. إنِّي .. إنِّي أشهدُ ألا إلهَ إلا الله.. وَأنَّكَ عبدُهُ وَرسولُهُ..
وَتبسَّمَ الرَّسولُ الكريمُ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ – ، وَشاعتِ الفرحةُ على وجوهِ الصَّحابةِ الكرامِ - بمنْ فيهمْ حمزةُ رضيَ اللهُ عنهُ - ، وَتمتمَ الجميعُ بامتنانٍ وَخشوعٍ:
- الحمدُ للهِ تعالى..
وَتقدَّموا من أخيهم الجديد يصافحونهُ بجذلٍ، وَيهنِّئونَهُ بحبٍّ على ميلادهِ الجديدِ، وَابتسمَ هوَ.. فقدْ أحسَّ ببَردِ الرَّاحةِ في صدرهِ، وَلمعَ بريقُ التَّحدِّي وَالثَّباتِ في عينيهِ، وَهدأَ البركانُ الثَّائرُ في نفسهِ...
وَكأنَّما انجلتْ عنْ رؤوسِ الجميعِ صورةُ عمر الطَّاغيةِ الكافرِ العاتي الَّذي طالما عذَّبَ المؤمنينَ وَسخَّرَ لعِداءِ الإسلامِ جُلَّ قواه.. لقدْ مضى ذلكَ كلُّهُ.. وَتجلَّى شموخُ الإسلامِ عالياً يسطعُ بوميضِ الطمأنينةِ وَالسعادةِ الحقيقيَّتينِ..
ربِّي اغفرْ لي، ربِّي ارحمني فأنا ها قدْ جئتُكَ مسلمْ
*عضو رابطة الأدب الإسلامي العالميةة
[1] وفي رواية: أنه سعد بن أبي وقَّاص – رضي الله عنه - ، لكن يظهر أنَّ الأصحَّ هو نُعيم وَالله تعالى أعلم.