مقامة النِّعم

(الجزء الأول) [1]

شيماء محمد توفيق الحداد *

[email protected]

حدَّثنا قيس بن سعد السَّعدي قالَ:

- كنتُ معَ هشام بن ربيعة الصَّقجبيِّ مرَّةً، وَكنتُ أزورهُ كرَّةً بعدَ كرَّةً، أستمعُ لحديثهِ العجاب، أنا وَجمعٌ منَ الأصحاب، فكانَ يحدِّثنا عنْ أسفارهِ بينَ البلدان، وَعمَّا جرى لهُ فيها ممَّا لا يخطرُ على الأذهان..

وَفي ذاتِ مرَّةٍ، قالَ أحدُ الأصحاب:

- يا أبا جعفر، إنَّ حديثَكَ يجلبُ المسرَّة، وَيفتنُ الألباب، فهلْ لكَ أنْ تحدِّثنا عمَّا جرى معكَ في بعضِ البلاد؟، قلْ لي: أزرتَ يوماً بغداد؟..

فزفرَ زفرةً طويلةً، وَنظرَ إلينا نظراتٍ كليلةً، وَقالَ:

- أمضيتُ فيها فترةً جميلة، وَزرتُ فيها مناطقَ ليستْ بالقليلة، كنتُ أخرجُ في الصَّباح، قبلَ أنْ يستيقظَ الدِّيكُ الصَّيَّاح، وَقبلَ أنْ يشدوَ البلبلَ الصَّدَّاح، مواكباً في سيري نسائمَ الرِّياح، فأقصدُ الرَّوابي الخضراء، وَأنظرُ للسَّماءِ الزَّرقاء، وَأمتِّعُ ناظريَّ بالزُّهورِ الحمراءِ وَالصَّفراء، ثمَّ أقصدُ النَّهرَ القريب؛ لأشربَ منهُ ماءً قراحاً، فأحسُّ بإحساسٍ منعشٍ غريب، وَيمتلئُ صدري سروراً وَانشراحاً، فأحمدُ اللهَ تعالى ربَّ العباد، على نعمهِ الكثيرةِ التِّعداد..

قالَ قيس:

- ثمَّ هتفَ أبو جعفر بمرح، وَقالَ وَقدْ لمعَ في عينيهِ الفرح:

- وَبمناسبةِ الحديثِ عنِ النِّعم، سأروي لكمْ حادثةً طريفة، ستشهدونَ أنَّها حقّاً ظريفة.. وَإنْ كانتْ نهايتُها مشوبةً بالأحزان، لكنَّها ستسرُّكمْ يا إخوان، بإذنِ المولى المنَّان.. لتعرفوا فضلَ قولِ (ما شاءَ الله) عند الحديث عن كل نعمة وفي كلِّ آن..

قلنا:

- هات..

قالَ هشام بن ربيعة، وَقد بدتْ في وجههِ سماتٌ وديعة:

- تعرَّفتُ في بغداد، على رجلٍ منْ خيرِ العباد، هوَ رجلٌ منَ التُّجَّار، كانتْ حياتُهُ أشبهَ بحياةِ الملوكِ الكبار، وَكانَ منْ أكثرِ النَّاسِ مالاً، وَأفضلهمْ حالاً.. وَكنتُ أزورهُ حيناً بعدَ حين، فكانَ لي نعمَ القرين.. وَكانَ لهُ بنونٌ وَبنات، همْ منْ أحسنِ الثَّروات؛ لِمَا اشتملوا عليهِ منْ خلقٍ سليمٍ وَدينٍ قويم، وَما تمتَّعوا بهِ منْ كريمِ الصِّفات، وَلهُ زوجةٌ منْ خيرِ الزَّوجات؛ ديناً وَخلقاً وَمكرمات..

قالَ قيس:

- وَاعتدلَ في جلستهِ أبو جعفر، وَبسطَ ساعديهِ وَشمَّر، وَقالَ:

- لكنَّني زرتُ صاحبي في إحدى المرَّات، فرأيتُ البنينَ في بكاءٍ وَالبناتِ، فعجبتُ منْ هذا الحال، وَدنوتُ أسألُ أكبرَهمْ طلال:

- ما بكَ يا  طلال؟.. لمَ كلُّ هذا البكاء؟.. هلَّا وقفتَ البكاءَ ؟.. فإنِّي أخشى عليكَ تغيُّرَ الحال، منَ الصِّحَّةِ إلى المرضِ وَالدَّاء !..

فلمْ يجبني طلال، وَطفقتُ أسألُ إخوته، وَانتظرتُ جواباً منْ بلالٍ وَجمالٍ وَكمالٍ فما لقيتُ جواباً، فعجبتُ لهذا عجباً عجاباً!..

وَالتفتُّ إلى الفتيات، وَكلُّهنَّ في السِّنِّ صغيرات، وَأخذتُ أسألهن، وَأنا في إشفاقٍ منْ حالهن:

- ما بكِ يا دلال؟.. ما يبكيكِ يا منال؟.. ما الخطبُ يا آمال؟..

فما لقيتُ منَ البنينَ وَالبناتِ منْ مجيب، فقلتُ:

- وَاللهِ إنَّ هذا أمرٌ عجيب!!..

وَدخلتُ إلى القصرِ علِّي أجدُ صاحبي الصَّديق، فأساعدُهُ في هذا الضِّيق، فوجدتُهُ يذرفُ العبرات، وَيزفرُ الزَّفرات، فسألتُهُ – وَأنا في عجبٍ منهُ وَمنْ أبنائهِ الباكينَ - ، فأجابني بعدَ حين:

- ماتتْ زوجتي وصال ،وَأنتَ تعلمُ ما لها منْ صفاتٍ وَشمائلَ تؤهِّلها لتكونَ لكلِّ امرأةٍ خيرَ مثال..  

سألتُهُ:

- كيفَ ماتتْ زوجتُكَ وصال، وَقدْ كانتْ في أحسنِ حال؟..

قالَ أبو طلال:

- فاجأها داءٌ عضال، ما استطعتُ القضاءَ عليهِ بأيِّ شكلٍ منَ الأشكال.. حتَّى قضى عليها فحزنتُ لذلكَ حزنًا شديدًا، وَبكيتُ وقتاً مديدًا.. وَتغيَّرتْ في قصريَ الأحوال، وعفتُ المنامَ وَأحسستُ في فمي المرارةَ منْ كلِّ طعامٍ وَشراب، وَإنْ كانَ الماءَ الزُّلال!..

فرأيتُ أنْ أواسيه، علَّني أخفِّفُ عنهُ بعضَ ما يلاقيه، وَأنْ أذكِّرَهُ بنِعَمِ الرَّحمن، وَما آتاهُ منْ بناتٍ وَصبيان، فقلتُ بلهجةٍ فيها عطفٌ وَحنان:

- احمدْ ربَّكَ يا فلان، وَانظرْ إلى عطاءِ ربِّكَ المنَّان.. انظرْ إلى ما حولِكَ منَ الأبناء، وَما همْ عليهِ منْ نبوغٍ وَذكاء، تجدُ نفسَكَ منْ أسعدِ الآباء.. انظرْ.. كلُّهمْ موفورٌ بالصِّحَّةِ وَالعافية، وَكلُّهمْ صاحبُ نفسٍ صافية، لمْ تبتلَ بولدٍ سقيم، أوْ عاقٍّ كأنَّهُ الشَّيطانُ الرَّجيم، فهلْ تنسى هذهِ النِّعمةَ العظيمة، إذا ما نزلتْ بكَ نائبةٌ أليمة؟..

قالَ أبو جعفر:

- وَما زلتُ بهِ حتَّى زالَ عنهُ الحزنُ وَالألم، وَعادَ كأنَّهُ مريضٌ أبلَّ منْ سقم، فودَّعتُهُ وَأبناءَهُ وَقصدتُ داري، وَأنا أحمدُ اللهَ تعالى أنْ وفَّقني لخدمةِ جاري..

قالَ:

- ثمَّ مضتْ شهورٌ طويلةٌ كثيرة، لمْ أرَ فيها صاحبي ذاكَ وَلا برهةً يسيرة؛ قدْ شغلتني أشغالي عنْ ذاكَ الصَّديق، حتَّى تفرَّغتُ فعزمتُ على الذَّهابِ إليهِ فالهجرُ أمرٌ لا يليق، وَقصدتُ دارَهُ، فلمْ أرَ صغارَهُ، وَعهدي بهمْ مع بعضهم يلعبون، أو على البساطِ الأخضرِ كفراشاتٍ يمرحون..

وَدخلتُ على صاحبي القديم، فرأيتُهُ في همٍّ عظيم، ذكَّرني بذاكَ المصابِ الأليم، فدنوتُ منهُ أسألهُ ما باله، فقدْ تغيَّرَ عليَّ حالُه، وَأنكرتُ عليهِ صمتَهُ الطَّويل، وَكأنَّني ضيفٌ غريبٌ ثقيل، وَأخيراً قالَ - بعدَ طولِ محاورةٍ منِّي وَإقناعٍ وَجدال - :

- أتذكرُ لمَّا ذكَّرتني بنعمةِ الأبناءِ الجليلة؟، لقدْ فقدتهم كلَّهمْ بليلة..

فنظرتُ إليهِ نظرةً ذاهلةً جامدة، وَقلتُ:

- أفقدتَهمْ بليلةٍ واحدة؟..

قالَ:

- نعم.. ماتوا جميعاً، فقدتُهمْ بعدَ أنْ كانوا يملؤون حياتي ربيعاً، لمْ يبقَ منهمْ أحد؛ لذلكَ ترى ما فيَّ منَ الحزنِ وَالوجد، منْ عظيمِ الخطبِ وَالفقد..

فأدركتُ ما بهِ منْ حزنٍ وَشقاء، أتَياهُ منْ هذا البلاء، وَما لبثَ أنْ قالَ لي وَهوَ يعاودُ البكاء:

- كانوا أولاداً رائعينَ جمعوا صفاتٍ قاربتِ الكمال، وَكانوا حميدي الشَّمائلِ كريمي الخصال، ربَّيتُهمْ أحسنَ تربيةٍ، وَغذَّيتُ فيهمْ حبَّ العملِ وَالنِّضال، وَنأيتُ بهمْ عنِ الميوعةِ وَما زادَ منَ الدَّلال، لمْ أطعمْهمْ إلا منَ المالِ الحلال، بَعُدتُّ بهمْ عنِ الخمولِ وَالكسلِ وَالضَّلال، وَسعيتُ لكي يكونوا لي قرَّةَ عينٍ وَراحةَ بال، صمَّمتُ على توعيتهمْ بالخير، وَلو كانَ ذلكَ يقتضي خسرانَ كلِّ ما أملكُ منْ مال، لكنَّني.. لكنَّني فقدتُهمْ جميعاً في ليلةٍ منْ أنحسِ اللَّيال!..

قلتُ:

- وَلكنْ كيفَ فقدتَهمْ هكذا بفردِ دفعة؟.. أجبني وَامسحْ تلكَ الدَّمعة..

قالَ:

- بعثتُ بهمْ في قافلةٍ إلى بلادِ الشَّام؛ علَّهمْ يجنونَ ربحاً منَ المالِ وَالعلمِ فيفيدوا الأنام، وَبعثتُ معهمْ خادمي المخلصَ حسام، فداهمتِ القافلةَ عصابةٌ منَ الأشرار، وَقتلوا كلَّ أفرادها وَأخذوا كلَّ متاعها، وَقتلوا أولادي فصرتُ وحيداً كبستانٍ بلا أشجار..

قالَ هشام:

- وَلمَّا رأيتُ ما بصاحبي منْ جزع، طارَ بعقلي الفزع، وَقلتُ أخاطبُ نفسي:

- ويحكَ يا هشام!، قدْ تهجمُ على صاحبكَ الأسقام، وَهوَ خيرُ منْ لقيتَ وَرأيتَ وَعرفتَ منَ الأنام، فكنْ كالفارسِ الهمام، وَانتشلْهُ منَ الحزنِ قبلَ أنْ يستسلمَ للأوهام، وَقبلَ أنْ ينسيَهُ الشَّيطانُ وَالحزنُ أفضالَ ربِّهِ الملكِ القدُّوسِ السَّلام، وَحتَّى لا تغلبْهُ على إيمانهِ هذهِ الخطوبُ الجسام، فقلتُ لهُ:

- هوِّنْ عليكَ يا أبا طلال، وَاحتسبِ الأجرَ في أبنائكَ عندَ الكبيرِ المتعال، أبناؤكَ رحلوا إلى ربِّهمْ ذي الجلال، فاصبرْ وَلا تنسَ إيمانَكَ فيضيعَ في غمرةِ الأسى وَالضَّلال..

ثمَّ.. أنسيتَ كلَّ ما أنعمَ اللهُ تعالى بهِ عليكَ منْ خيرٍ وَأموال؟، أنسيتَ نعمَهُ عليكَ وَالأفضال؟، أتنساها بسببِ موتِ أبنائكِ يا أبا طلال؟..

نِعَمُ اللهِ تعالى علينا وفيرة، وَأفضالُهُ كثيرةٌ كثيرة، تهطلُ علينا كأمطارٍ غزيرة، انظرْ حولكَ وَستعرفُ صدقَ ما أقول، انظرْ للخيرِ في دارِكَ يصولُ وَيجول، قدْ أنعمَ اللهُ تعالى عليكَ بالمال، وَبهذهِ الدَّارِ الفخمةِ المليئةِ بكلِّ ما يسرُّ وَيشرحُ البال، انظرْ إلى حديقةِ قصرِكَ العامرةِ بالجمال، فيها أزهارٌ وَوردٌ وَنخلٌ طوال، وَانظرْ إلى شرفاتِ قصرِكَ الرَّائعةِ الَّتي ترى منها الهلال، انظرْ إلى ما تتقلَّبُ فيهِ منْ نِعَمٍ وَثراءٍ طوالَ النَّهارِ وَاللَّيال؛ تلبسُ أجملَ الثِّيابِ وَغيرُكَ لا يملكُ الأسمال، تأكلُ ما لذَّ وَطاب، وَغيرُكَ لا يجدُ حتَّى الشَّراب، تعيشُ في رخاءٍ وَغيرُكَ يعاني الشَّقاءَ وَيقاسي العذاب، تنامُ في فراشٍ وثيرٍ وَغيرُكَ يلتحفُ السَّماءَ وَيفترشُ التُّراب، إنَّكَ ثريٌّ وَغيرُكَ فقراء، إنَّكَ سعيدٌ وَغيرُكَ أشقياء..    

انظرْ إلى قصرِكَ الشَّامخ وَإلى ترفكَ الباذخ.. انظرْ إلى مالِكَ الوفير، وَخيرِكَ الغزير.. أفتنسى كلَّ ذلكَ وَتحتجُّ على القدرِ وَتلومُ القضاء؟!.. ألا فاستغفرْ ربَّ السَّماء، وَاسألهُ – سبحانَهُ - المزيدَ منَ العطاء، فهوَ ربُّ العالمين، وَهوَ أرحمُ الرَّاحمين..

قالَ هشامٌ:

- فما زلتُ بهِ حتَّى سلا، وَودَّعَ الحزنَ وَإيَّاهُ قلا.. فودَّعتُهُ وَانصرفتُ..

قالَ:

- وَمرَّتْ سنونٌ كثيرةٌ تركتُ فيها بغداد وَتنقَّلتُ بينَ البلاد، ثمَّ عدتُ إليها منْ جديد، فحمدتُ اللهَ العزيزَ المجيد، وَخطرَ لي أنْ أزورَ صاحبي الحميم، لأجدِّدَ معهُ ما كانَ بيننا منْ ودٍّ قديم..

وَذهبتُ إلى ذلكَ القصرِ المنيف، فإذا بهِ .... مكانٌ موحشٌ مخيف !!..

يتبع ،،،

              

*عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

[1]  ألَّفتُها في الثَّالثةَ عشرةَ من عمري .