الشريف ابن الشريف
من قصص التراث الشعبي الفلسطيني
تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
عاش شاب في أسرة فقيرة ، وكان متميزا بين زملائه في ذكائه ومهاراته ، حتى تمكن من اجتياز كل مراحل الدراسة بامتياز.
بعد أن حصل على شهادة الثانوية العامة وبدأ موعد الدراسة الجامعية لم يتمكن من الالتحاق بالجامعة بسبب منع حكومته له من السفر .
وبينما كان موكب رئيس الجمهورية سائرا ، مدججا بالأسلحة ، ومحاطا برجال الحراسة ، تقدم الشاب فجأة إلى سيارة رئيس لجمهورية وألقى بنفسه أرضا أمامها ، أمر الرئيس بالتوقف ولمساءلة الشاب عن دوافع فعلته .
شرح له الشاب كل قصة حياته ، ثم أمر الرئيس بأن يُسمح له بالسفر والتعليم ، ولكنه لم يحصل منه على أية مساعدة مادية تُذكر .
التحق الشاب بالجامعة ، وسار بخطوات من النجاح والتوفيق ما أذهل الكثير من الناس ، حتى تمكن من الحصول على شهادة الدكتوراه في علم الحقوق ، كان يجمع مصروفاته ورسوم الجامعة عن طريق ما يقدمه له بعض المحسنين من رجال الخير ، محافظا على كرامة نفسه ، وكان يعيش الشهور والأعوام على طعام الفول والطعمية ( الفلافل ) فقط ، ينام في مدخل سُلَّم عمارة سكنية ، مفترشا حصيرا بالية وفراشا ممزقا .
أنهى الشاب دراسته ، وحصل على مرتبة الامتياز مع درجة الشرف ، في مجال القانوان ( محاميا ) ، ثم عاد إلى مسقط رأسه ، بدأ الشاب بطرق جميع الأبواب باحثا عن وظيفة له فوجدها مؤصدة أمامه ، فمن أجل أن يحصل على وظيفة لا بد له من أن يكون ابن عائلة لامعة ، أو ابن ثري يملك من الأموال ما يمكنه من تسهيل كافة أموره ، أو ابن رجل من الوجهاء والأعيان ، كان الشاب فقيرا إلى درجة الحرمان الشديد من كل شيء تقريبا ، إلا من الإرادة والوعي وحسن الخلق ، لم يكن له عائلة ولا قبيلة ولا عشيرة ، كان يعيش مع والديه العجوزين ، في بيت سقفه من الصاج ، وجدرانه من الطين ، بظروف من القهر والحرمان الشديدين ، استدان قليلا من النقود من صديق له ، كان قد عرفه منذ سنوات الدراسة في المرحلة الثانوية ، وذهب إلى النجار ، ليصنع له صندوقا كبيرا لمسح ودهان الأحذية ؛ ليتمكن من أن يعيش بشرف وكرامة .
افترش الشاب جانبا من جوانب الرصيف ، واضعا صندوقه ينتظر من الله رزقه ، وألصق شهادته الجامعية أسفل الصندوق ، سمع بأمره حاكم المدينة فوضعه في السجن ، وأجبره على كتابة تعهد على نفسه بعدم تكرارها ، مقابل أن يخرج من السجن ففعل .
دعاه أحد أصدقائه من الخريجين الجدد على حفل تكريم تخرجه من الجامعة ، استجاب الشاب لدعوة صديقه ، وشعر أنه الوحيد الفقير، البائس المحروم ، من بين الحاضرين ، فجميع المتواجدين من كبار أعيان البلد ووجهائها ، حضروا بلباسهم الأنيق وسياراتهم الفاخرة ، وفجأة قدّم أحد المدعوين من الوجهاء والأعيان إلى صديقه صاحب الحفل بطاقة صغيرة ، وقد خط عليها بعض الكلمات ، طالبا منه أن يحضر بعد غد لاستلام عمله الجديد ، وهو ينظر بحسرة ومرارة .
بدأت عملية التعارف ، كل من الحاضرين يُعَرِّف عن نفسه .
منهم من قال : أنا فلان ابن القاضي فلان ، ومنهم من قال أنا فلان ابن المدير فلان ، ومنهم من قال أنا فلان ابن التاجر فلان ، ومنهم من قال أنا فلان ابن المحامي فلان .... وهكذا .
كان الشاب مستغرقا في تفكير عميق ، يعيش عبئا كبيرا ، ماذا يقول ، وكيف يصنع ؟ .
وعندما جاء وقت الشاب الفقير؛ لكي يتعرف الحاضرون عليه ، وقف تعلوه الثقة بنفسه والأمل في الغد وقال : أنا الشاب الذي شرّف أهله وبلده ولم يُشَرِّفه غيره ، اسمي الشريف ابن الشريف .
من كان الله معه فمن عليه ، عبارة كان كثيرا ما يرددها ، تمكن أخيرا من فتح مكتب له ومزاولة عمله ، وبدأت شهرته تنتشر كالنار في الهشيم في كل مكان .
زفي جلسة مرافعة له في محكمة المدينة ، وأمام المحلفين وجمع كبير من المحامين والحضور ، وبينما الجميع يصغي إليه باهتمام كبير ، صمت برهة من الوقت ، وأخذ يبحث في كل مكان من قاعة المحكمة ، بحث خلف الباب ، وتحت المقاعد ، وفي الأثاث الموجود ، وبين المكاتب ، وفي قفص المتهمين ، وهنا وهناك من القاعة .
خاطبة رئيس المحكمة ( أحد القضاة المتواجدين ) قائلا : عن أي شيء تبحث يا أستاذ ؟
قال الشاب : عن العدالة يا سيادة القاضي.