الحلم

يوسف حامد أبو صعيليك

[email protected]

قال يردد العبارة ، كأنه ما زال في حلمه :

- ( سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ).

- بقراتك العجاف صارت وحوشاً تحتل الشوارع .

ورنت الضحكات في أرجاء القصر .

قال باستنكار :

- ألم تزعموا أنها أضغاث أحلام ، وأنكم لستم بتأويل رؤياي بعالمين ؟!.

وانطلقت الضحكات من جديد بضجيجها المفزع .

قال أحدهم :

- ليس ما تقوله بحلم ،....... بل الحقيقة بعينها .

ارتعدت فرائصه خوفاً ودهشة :

- ولكنه حلم ....... مجرد حلم ........ مفزع !.

  صرخ فيه أحدهم :

- لست مغمض العينين ، أنظر حولك ، ......... هذا زمن السنوات العجاف .

عاد يسأل من جديد ولكأنما يريد أن يزيل بسؤاله بعض فزعه :

- والسنبلات؟!.

- - أيها ؟.

قال زعيمهم .

- اليابسات ؟.

وخرجت من فمه مرتعبة .

قال أحدهم بلهجة الواثق :

- صارت سنابل .

-  ما الذي تعني ؟!.

- صارت سنابل ..... من خراب .

- ولكن السنبلات الخضر كانت بجانبها ، وهي الأقوى ، ...... هي الحية ، فكيف ينتصر  الميت على الحي ؟!.

- كانت سنابلك فارغة ......... كاذبة ........ باختصار كانت خداعاً .

صرخ أحدهم وهو يشير بسبابته نحو الملك :

- لا ، لم تكن خداعاً ........... بصره هو الذي خدعه .

- بصري ما يزال يحتفظ بقوته .

ضحكوا من جديد .

قال أدناهم ساخراً :

- ستة على ستة .

 أخذ يدور في دائرة وهو يصرخ :

- ألستم أخلائي ، ........ ندماني ، ما بالكم تحيطون بي كأنكم الأعداء ؟!.

- ما زال بصره يخدعه .

     قال أحدهم .

- ماذا تقصد بهذا ؟.

   قال زعيمهم بلهجة تحقيرية :

- ومن أنت ؟.

- أنا الملك ....... أوتنكرني !؟.

  ورنت الضحكات مرة أخرى . 

- لماذا تضحكون !؟ .

  قال زعيمهم بغضب :

- ألقوه في غيابة السجن ........ لقد تجاوز الحد هذا الأحمق .

- أنا الملك أيها الأحمق ........ وأنتم خدامي .

- اخرس ،.... أنت الخادم ، ارموه في زنزانة يوسف ليذوق صقيع السجن .

   سال باستغراب :

- من هو يوسف ؟.

- من أوحينا إليك بسجنه ....... أونسيته ؟.

  صمت قليلاً ، حاول التذكر ، جاءه صوت قديم من أعماق الذاكرة :

- ( تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله غلا قليلاً مما تأكلون ، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون ، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون  ).

- المحصول في الصوامع ، .. ولكن .. أكلته الدودة .. نعم .. لقد تذكرت ؛ وأمرت بسجن كل المسئولين عن ذلك الإهمال ، ولكن ما الذي أعادهم إلى مجلسي ؟.

 ونظر إليهم بدهشة :

- ما الذي أخرجكم من السجن من بعد جريمتكم النكراء ؟.

- أيها القادم من ظلمات الذاكرة ،.... لقد نسجت العنكبوت نسيجها على ذاكرتك ، ألم تعلم أن الدود الآن ....... هو الحاكم المطلق .

- ويلي ...... يوسف ...... أين هو ؟.

- ها ها ها  ........ مات يوسف في زنزانته ......... أقصد زنزانتك الجديدة .

-  آه ،  ويلي عليك يا مصر .

  جاء صوت سيارة من خلف الأبواب الكبيرة ، دخل الحاجب ، وخاطب كبيرهم :

- مولاي ، لقد جاءت العربة المصفحة .

    وجاء الأذن بدخول الجند ، ودخل الجنود ، واحاطوا بالملك .

قال الزعيم :

- خذوه ....... فغلوه .

صرخ الملك :

- يا قوم !.... أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ؟!.

     جاءه صوت لا يدري من أين :

- لقد انشقت بطن الزنزانة ، وابتلعتك داخلها منذ امتداد سنوات القحط إلى الآن .

     وأخذه الجند إلى العربة المصفحة مكبلاً بقيوده .

*        *              *

وأغلق باب الزنزانة بعنف .

أخذ يقلب كفيه بدهشة :

- ما الذي أتى بك إلى الزنزانة ؟، ما الذي حدث ، .... أين ملكي ؟، .... وكيف ؟،..... ومتى ؟،.... وماذا ؟،....

    وشد بيديه على رأسه ، ونزلت دمعات الدهشة على خديه .

- أين أنت أيها الصديق !.

- ماذا تريد أيها الملك ؟.

جاءه الصوت من خلف .

  واستدار الملك إلى حيث مصدر الصوت ، وبُهِتَ .

- ما بك بُهِتَّ .

- يوسف أيها الصديق ، أفتني فيما حدث من جنون لا أستطيع فهمه ؟.

قال مستنجداً .

- كيف أفتيك ؛ وقد خذلت فتواي من قبل ، وجعلتني أموت في صقيع السجن وظلماته ؟.

- هم أوهموني أنك عميل ومشاغب .

- أنت من أطاع هواه وأطاعهم .

قال يستنجد بحجة تساعده   :

- عملت برأيك يا يوسف ، وملأت الصوامع حبوباً .

- أنا لم أقل املأ الصوامع حبوباً ، وإنما قلت تزرعون سبع سنين دأباً .

- لقد اختصرت الطريق ، واشتريتها من قافلة عابرة بثمن بخس .

- وباعك التاجر فيها دوداً .

وضع يده على رأسه :

- ويلي ........ أفتني يا يوسف ... أفتني .

- بماذا ؟.

- كيف الخروج من هذا ؟.

- أنت الآن مجرد سجين سيموت من الصقيع ...... والندم ....  فمن أفتي ؟.

  قال وهو ينتحب :

- أنجدني .

- لا نجدة لك اليوم ، فات أوانها .

واختفت الصورة ، وبقي صدى الصوت يتردد بين جنبات الزنزانة .

- لا يا يوسف ، أيها الأمين !.

  ومد يده ليمسك شيئاً ، خذله الجدار ، وأعطاه بردته الحارقة .

ألقى بجسده على الأرض ، تمدد فوق برودتها ..... حاصرته ضحكات آتية من قصر الحكم لظلال تتبادل الكؤوس ، و ترقص بنشوة ....... وبكى ...

ثم علا عويله .... عويل النهاية المفزعة