من واقع سجن تدمر
أبو الفرج الناعوري
(أحزان لا تزول)
لا أدري كيف أصف لقائي بهذا الرجل فقد عرفته منذ عشرين عاما ، ثم غاب عني إلى أن التقينا قدرا في أحد شوارع حلب التي أفد إليها كل مدة ..
نظر إلي طويلا ، ونظرت إليه ، ترددت في السلام عليه ؟ فلربما كان شخصا آخر شبيها به ؟!
ولكنه قطع هذا التردد ، واندفع نحوي متعجبا وهو يقول : كأنك نسيتني ؟ أنا فلان الذي كان معك في دورة الرقباء الجامعيين .
صرخت من أعماقي : أهذا أنت ؟ سبحان الله ! لقد تغيرت كثيرا؟ !
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مرة ، وهز رأسه : نعم تغيرت كثيرا ولكن أحزاني لم تتغير ولم تتبدل . ثم أردف :ألا تحب أن تسمع قصتي ؟!
أجبته على استحياء : بلى ! ومضيت معه إلى منـزله القريب
قلت : ماذا حدث لك ، أعرف أنك كنت معنا في الدورة ، ثم اختفيت فجأة ، ولم يجرؤ أحد على أن يسأل عنك ؟!
قال : نعم ! اختفيت ، أو أُخفيت اثني عشر عاما في سجن تدمر العسكري ؟! أتدري لماذا ؟
قلت : لا ! ولكن أعرف أن كثيرين من معارفنا وأصدقائنا قد أُخذوا ولم يعودوا ؟ !
قال : اُعتقلتُ وأنا عائد من إجازتي عند مدخل الثكنة .
لم يحقق معي أحد ، ولكن ضابط الأمن أَسَرَّ إلى أحد معارفه بأن تقريرا وصله عني ، ولا بد من سوقي إلى تدمر للتحقيق .
قلت : وساقوك إلى تدمر ؟!
قال لأرى الويلات ! تصورْ أنه لم يستدعني أحد ، ولم يسألني سائل ، وفي نهاية السنة الثانية عشرة استدعيتُ مع مجموعة من الموقوفين ، وأُخذنا للتحقيق أو المحاكمة في طابور طويل !
نظر القاضي إلى ملفي ، ثم صَفَر صفرة طويلة وهو يقول : شو عم تساوي هون يا بن …..
أبوك وأبو اللي جابك لعندي ؟؟؟؟؟؟!!!!!
ثم رمى الملف في وجهي وقال وهو يقلب شفتيه بنـزق وقرف مرددا ما جاء في التقرير : حلبي … يصلي يُخشى منه في المستقبل
أُعدت إلى الزنزانة مرة أخرى ليُنادى عليَّ بعد شهرين تقريبا ويطلق سراحي ؟ !
بدا التأثر على وجهي ، وكادت الدمعة تطفر من عيني .
ركّز نظره علي وقال : أحزنك وضعي ؟!
قلت : كثيرا !
قال : كيف لو رأيتَ ما رأيتُ ؟
صمت قليلا وقال : سأذكر لك حادثتين فقط من عشرات الحوادث التي عايشتها بنفسي .
أخذت منديلا ،وتظاهرت بأني أمسح جبهتي وقلت : حدثني عن الإعدامات التي كانت تتم مرتين في الأسبوع
قال: بل كانت تتم كل يوم وكل ساعة ؟!
قلت : كيف ؟
قال : الإعدامات الأسبوعية كانت تتم في ساحة خاصة ولكن هناك إعدامات داخل الزنازين .
قلت : داخل الزنازين ؟ !
قال : نعم ، فقد كان علينا ونحن داخل الزنزانة إذا فتح الجلاد الباب أن نركض ليرتمي بعضنا فوق بعض ، ولسوء الحظ كان معنا شاب صغير السن لم يتعود هذا الأمر ، فتأخر قليلا فأمسك به الجلاد ، وأخرجه من بيننا ووضع رقبته على طرف العتبة، وما زال يعصرها بحذائه العسكري بكل ما أوتي من قوة ، إلى أن فقد المسكين الحركة ، فتركه وقد خمدت أنفاسه !
انطلقنا إلى الشاب فوجدناه قد فارق الحياة ، بذلنا كل ما نعرف وما نستطيع فعله بدون فائدة
انتظرنا قليلا ، ثم طرقنا الباب وقلنا : عندنا سجين مات !
فجاء الوحش وصرخ : كيف مات؟!
كان الشرر يتطاير من عينيه وكأنه لم يفعل شيئا
قلنا : لا ندري
فشتمنا بألفاظه البذيئة ثم فتح الباب لإخراج الجثة .
ترقرقت دمعة صامتة في عيني ، فمسحتها بطرف ثوبي
مرت فترة من الصمت الحزين ، ثم بادرته وقلت :
والحادثة الأخرى ؟
قال : إنها لا تختلف عن الأولى ، ففي أحد أيام رمضان وقبيل الغروب فُتحت أبواب الزنازين للدخول بعد التنفس الذي كان عملية تعذيب يتفنن بها الجلادون .
كانت السياط تلاحقنا فتعثر شاب مريض ولم يستطع الدخول ، فأمسك به الجلاد ووضع رأسه بين الجدار وبين باب الزنزانة الحديدي ، وأخذ يضغط بشدة حتى سقط ميتا لا حراك فيه ثم أشار بلا مبالاة إلى اثنين منا لحمل الجثة إلى سيارة البلدية التي تنقل بها القمامة .
قلت : وهل أفطرتم ؟
قال : نعم ، ولكن على الدموع الصامتة والتأوهات الخافتة ، والدعاء الذي ينطلق إلى السماء غضا طريا .
قلت ، وقد أحسست أن لديه الكثير مما يؤسي النفس :حسبك ، لقد نكأت جراحا في صدري ،لم تلتئم بعد .
دعوة :
إلى جميع الذين أصابهم بغي وظلم وعسف العصابة المجرمة الحاكمة في دمشق أن يبادروا إلى تسجيل وتوثيق ما لديهم من معلومات لتقديم المجرمين إلى محكمة عادلة قريبة بإذن الله .
( أبو الفرج )