صادق، الذي رأى ما لا نراه
محمد زهير الخطيب/ كندا
كان صادق شديد الصلاح، وكان يتمنى أن يكرمه ربه بكرامة تزيد في إيمانه، ولِمَ لا؟ ألم يسأل إبراهيمُ عليه السلام ربه أن يريه كيف يحي الموتى؟ وعند المساء بعد صلاة العشاء تأخر صادق في الخروج من المسجد وبقي يُسبّح ويُحمّد وعينهُ على الامام ينتظر فراغه من السلام على الناس وإجابته لاسئلتهم التي لا تنتهي، وتمنى أن تكون مسائل الناس خفيفة هذا اليوم حتى يحظى بالامام بسرعة. إقترب منه على استحياء فقد كانت علاقته به رسمية وقال له: هل لي أن سألك سؤالا يامولانا؟ هل يجوز لي أن أسأل الله عز وجل أن يكرمني بكرامة يخصني بها دون الناس كي يزداد إيماني ويقيني؟ قال له نعم يجوز، فالله عز وجل أكرم الاكرمين وخير مسؤول، وإذا سألت الله من الدنيا فلا تنسى أن تسأله من الآخرة فالآخرة خير وأبقى يا بني.
أكتفى صادق بهذا القدر وخرج فرحا وقد دبج في ذهنه دعاءً عريضاً يدعو به في صلاة التهجد لهذا اليوم فقد كان لايترك صلاة التهجد أبداً، يخشع فيها وتنسكب على وجنتيه الدموع كلما ذكر مقام الله العظيم وخشع لجلاله الكريم.
اللهم تقبل مني صلاتي ودعائي واستغفاري، اللهم إني أتوجه إليك اليوم بطلب لا يصعب عليك وأنت القادر على كل شيء، فان كنت عندك من الصالحين فأكرمني بقبوله إنك أنت السميع المجيب، اللهم إني أؤمن بك وبملائكتك وكتبك ورسلك واليوم الآخر، اللهم اجعلني قادرا على رؤية الملائكة الذين يروننا ولا نراهم، وما أن انتهى صادق من دعائه حتى خامره شعور كالالهام بأن الله عز وجل قد استجاب دعاءه، وفجأة أحس بأن في الغرفة أشخاصاً آخرين فأذهلته المفاجأة فصرخ من الخوف وخر مغشياً عليه.
ولم ينتبه إلا وهو ممدد على السرير وبجانبه والدته وطبيب من أقاربه يقيس له حرارته، ففتح عينيه وتذكر أحداث الامس وقرر أن يتماسك وأن لا يفشي سره لاحد. ولاحظ صادق أن في الغرفة أشخاصا آخرين، فقال في نفسه لا بد أنهم الملائكة الذين يرافقوننا، واحد عن اليمين يكتب الحسنات وثان عن الشمال يكتب السيئات، كان عددهم ستة، إثنان يقفان بجانبه وإثنان بجانب والدته وإثنان بجانب الطبيب، فأسرها صادق في نفسه ولم يبدها لهم. وعاد بذاكرته بسرعة إلى أيام المدرسه، وإلى حديث مدرس الدين عن الملائكة وتفصيله لهذا الامر، عندما شرح لهم قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
قال له الطبيب، يبدو أنك أحسن حالا الآن يا صادق، هل لك أن تذكر لي ماجرى معك أمس؟ هل وقعت أو اصطدمت بشيء جعلك تقع على الارض مغشيا عليك؟ قال لا، إنما كنت أصلي فأحسست بالاغماء، لا عليك، أشعر الآن بتحسن وأشكرلك حضورك واهتمامك.
ومن ذلك اليوم صار صادق يرى الملائكة في كل مكان، يعملون بصمت... يكتبون ويسجلون، لاينامون ولا يفترون، وبدأ صادق يغير كثيرا من عاداته السيئة ويمتنع عن فعل أي معصية حياءً وخجلا من الملائكة، وزاد من فعل الخيرات والصالحات لما يراه من همة ملَكِ الخير الذي يستبشر بفعله للخير ويكتب ذلك بدقة وهمة وفرح، غير أنه أحس بأن حياته قد أصبحت صعبة وأن الاستمرار بهذا الشكل فوق طاقته وأكثر من أن يتحمله، أصبح لا يعرف كيف يداري عن الناس مايراه، ولا يعرف كيف ينام ولا كيف يخلو بنفسه... فقام من جديد يدعو الله متضرعا راجيا أن يعيده كما كان شخصا عاديا لايرى الملائكة ولا يحس بوجودهم. ووكم تألم عندما لم يستجب ربه لدعائه، فلركبه الهم وقل نومه وطعامه ولزم فراشه أيام لا يدري مايفعل وويزيد في دعائه وتضرعه كل يوم بعد كل صلاة وخاصة بعد تهجده في جوف الليل، وبعد سبعة أيام جاءته البشرى واستيقظ ليرى نفسه وحيداً كما كان، فحمد الله كثيرا وسبحه بكرة وأصيلا.
غير أنه لم يستطع بعد تلك التجربة أن يمحي من ذاكرته تلك الذكريات العجيبة، فأصبح حذراً في تصرفاته شديد المراقبة لسلوكه كثير المحاسبة لنفسه لا يشك لحظة بوجود الملائكة معه يكتبون ويسجلون، حتى كان يستطيع تقدير مكانهم بالضبط ومن منهم الذي يكتب ومن منهم يلوذ بالهدوء. لقد ازاد ايمان صادق وأصبح لايراه ربه الا حيث أمره، ولا يراه أبدا حيث نهاه، وخالط قلبه الاحسان حتى أصبح يعبد الله عز وجل كأنه يراه.
ولم يعمر صادق بعد ذلك كثيرا فقد توفاه الله عز وجل، ومضى إلى جوار ربه مؤمنا صالحا يسرح في الجنات حيث يشاء مع الانبياء والاتقياء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقاً.