خروف

مجدي السماك *

[email protected]

خرج عبد الفتاح أخيرا وقد تحسن مزاجه وأصبح هادئا منتعشا، بعد أن قضى حاجته في دورة المياه التي لم يكن فيها مياه، وبرفسة واحدة من مؤخرة كعبه القاسي ركل وراءه بابها الخشبي القديم وأغلقه.. الباب الذي انكسرت بعض خشباته ولا يستطيع أحد من أهل البيت أن يخمّن متى كسرت. ثم في الحال قبل أن يتحرك قفز ببصره ليتأكد من حسن إغلاقه، خشية أن تهبّ منه روائح كريهة تعمي القلب فتنتشر إلى بقية أركان البيت فتعبقه. وفي تلك اللحظة كان عبد الفتاح لا يزال يحس بارتياح شديد بعد إمساك طويل أصابه منذ ثلاثة أيام.. مما جعله يستمتع بلذة نادرة داهمته وبلغت منتهاها، ودغدغت ركبتيه كمن ابتلع حبة فاليوم. لذة لم تتركه إنما راحت تسري صاعدة إلى بطنه لتخدر ما فيه من أحشاء، وانتشرت من هناك وسرت حتى كادت أن تتقافز من عينيه الواسعتين الجاحظتين الوادعتين. ثم عدّل في هدوء بارد من جسده الطويل المحني، ونتره فأرجعه إلى الخلف ورمشت عيناه وهو يرجعه، وبدأ يشبك آخر زر في سرواله البني الواسع الفضفاض المشوشر. وراح بعد هذا على أقل من مهله كشخص قلبه ميت يعيد ربط  حزامه ذي الحواف المكشوطة، الذي كان يفخر بجماله عندما كان جديدا أيام زمان.. ربطه حول خصر ضئيل منحوت من كل الجهات، نحتت جوانبه الأيام وتفننت في نحته حتى انخسف. ثم في إهمال زائد مدّ يدا مقشبة إلى إبريق قديم ملآن إلى منتصفه بماء الوضوء، وتوضأ. وبدأ يخطو ويقرع البلاط بشبشبه الثقيل فيحدث طرقعات كتلك التي تحدثها بساطير العساكر، لينفض ما علق فيه من ماء قليل تفتفت، فتناثر حول قدميه الطويلتين كذراعيه.. مكونا سحابة صغيرة من رذاذ ناعم خفيف.

مدّ عبد الفتاح يديه وبسط سجادة صلاته الممزقة أطرافها، لكثرة ما علقها على مسامير مدقوقة منذ القدم في جدار فقد طلاءه منذ القدم وتشقق، وآل إلى السقوط، فاستعمرت شقوقه العناكب وتزاوجت فيه وتوالدت بعد أن سكنته صغار الصراصير. بعد هذا وقف منتصبا عند طرف سجادته، وصوّب بمنتهى الدقة كما مؤشر البوصلة جسده ومد بصره القصير الذي على قدّه إلى ناحية القبلة. كانت أذناه لحظتها منهمكتين بالتسمع إلى صوت ملعلع فيه خشونة وفيه شوشرة، تميزه نبرة قوية ينقصها رنين، إنه صوت الخروف القادم من بيت الجيران. ورفع عبد الفتاح رأسه فارتفع معه في الحال أنفه الطويل الحاد، واحتفظ به هكذا ممدودا ومرفوعا عاليا لبرهة في الهواء الطلق.. وحرك ذراعيه ورفعهما بهمّة إلى فوق كأنه يرفع كرباجين، فارتفع في نهايتهما كفان شاحبتان والتفّتا حول أذنيه كي ينوي صلاة العصر.

لكن عبد الفتاح لم يستطع أن ينوي للصلاة ولم ينطق بحرف، وظل للحظات مبتلعا صمته كما اعتاد أن يبتلع الكثير من فارغ الكلام. ففي هذه اللحظة كانت ابنته الطفلة قد نجحت في جذب الطبلية، وقربتها كثيرا إلى أن وضعتها وراء ظهره بالضبط، أسفل ردفيه المتخشبين. وبقفزة واحدة فيها مهارة كبار العفاريت كانت قدماها تلتفّان بإحكام حول وسطه المخسوف، وتطوقانه بالكامل من كل الجهات. وذراعاها المكتنزان التفّا بإحكام حول رقبته الرفيعة وضغطاها بإحكام. ودون أن تدري الصغيرة أوشكت رقبة عبد الفتاح أن تنخلع بين يديها، مما جعله يحس بأنفاسه تتكتم، وأحس بصدره يضيق وكاد نفّسه أن يختنق. واندفع مباشرة من حنجرته صوت يبدو أنه لم يمر عبر تجويف فمه المفتوح على الفاضي فلم يكن فيه كلام ولم يكن فيه صمت، ولسانه هو الآخر لم يستخدمه كأنه على ما يبدو ليس له.. كان صوته مخنوقا حين خرج وفيه لزوجة كتلك الأصوات التي تصدرها الضفادع..

- بالراحة.. رقبتي راح تطق.. سبيني أصلي.

- خليها تطق.. مليش دعوة.. بكرة العيد.. لازم تشتري لي خروف.. زي ما وعدتني.

بالفعل كان عبد الفتاح قد وعد طفلته بخروف العيد الكبير. وصارت البنت تتخيل أن هذا العيد بسبب كبره ستكون ساعاته ممطوطة ومنفوشة وممدودة.. والخروف بلا شك سيجعله أكبر وأوسع من بقية الأعياد التي لا تستطيع أن تعرف كيف تجيء، ولا تدري كيف تذهب.

وكلما تناهى إلى أذنيّ البنت خشونة صوت خروف الجيران، بنغمته المحببة إلى قلبها، المنبعثة وسط سكون ثقيل مضغوط، كان غيظها ينمو، ويفيض حنقها أيضا ثم يستعر.. فتشدّدّ من التفاف ذراعيها حول رقبة أبيها أكثر فأكثر حتى كادت أن تلويها. لكن الرجل نجح بأعجوبة بعد عراك ومداورة من هنا، وتقلصات من هناك، في تخليص رقبته من بين ذراعيها حتى حررها بالكامل.. بعدها راح بحذر كبير يحركها ويدوّرها إلى اليمين في مرة، وفي مرة والى اليسار، ليطمئن قلبه إلى سلامتها، وأيقن أخيرا وحمد الله أن فقراتها غير مكسورة. مع هذا فشل في إنزال الطفلة عن ظهره الذي بدأت فقراته تطقطق.. وبسرعة قرّ قراره، وأزمع أن يصلي والطفلة لا تزال متشبثة بسلسلة ظهره، وقد نشبت أظافرها في جلد كتفه الخالي من الشحم حتى كادت أن تثقبه، لتنفذ بعد هذا وتنخر في عظمه الرقيق الهّش.

ثم أخذ أبوها وكان ظهره لا يزال مقوّسا ينادي على زوجته المشغولة في المطبخ، وقد وضعت إبريق الشاي على النار وانتظرته طويلا حتى صار يغلي ويوشوش.. وطلب منها وألّح في طلبه أن تذهب إلى بيت الجيران، وتطلب منهم وترجوهم أن يسكتوا الخروف.. وأكد عليها بضرورة الإسراع لأن رقبته مهددة ومعرضة لخطر الالتواء أو الكسر في أي وقت. وجاءه جواب زوجته وهي خارجة أن هذا كله بسبب الدلع.. بسببك البنت خربت وأخلاقها تدهورت.. هذا كله من تحت رأسك. ثم مضت الولية مغلوبة على أمرها تلملم خطواتها المرتبكة وتلطم كفا بكف، مشتعلة بلهب غيظها المكتوم، ولم تستطع السيطرة على لسانها الطويل لوقت أطول، فانفلتت متذمرة تتمتم وترطن بكلام غير فصيح فيه لوعة وكله تأنيب.. وصفقت الباب.

صار عبد الفتاح ينادي على زوجته بصوت باهت فيه حيرة كأنه يجرب حنجرة جديدة اشتراها لتوه، لأمر خطر إلى باله لحظة خروجها بالضبط.. وبالفعل طلب منها حين خرجت أن تجس نبض الجيران.. وتسألهم لتتأكد إذا كان هنالك إمكانية لأن يستعير منهم الخروف إلى صباح الغد، وسيعيده إليهم باكرا من النجمة، أو مباشرة بعد صلاة العيد ليذبحونه، أو من الممكن إعادته في الليل بعد أن تنام البنت وتغرق عميقا في سابع نومه، وتأكل الرّز مع الملائكة حتى تشبع. هذا فقط من أجل أن يفرّحها به عله ينجح في إدخال البهجة إلى قلبها لساعات معدودة. وهي فرصة سانحة كي تأخذ البنت راحتها حين تلهو وتستمتع بمنظر فروته، وتتلمس بطنه المنفوخ المحدب.. وتسعد بروعة صوته الخشن المتهادي بكل ما فيه من رقه وسلاسة في أذنيها الصغيرتين.. علّها تصدق أنه بالفعل اشترى لها خروفا، فتفتخر وترفع رأسها عندما تتباهى بين بنات الحارة. لكن زوجته كانت قد خرجت ولم ينقر طبلة أذنها ولا كلمة واحدة من صوته الهزيل المبعثر، الذي كله طلبات مملة وأوامر متزمتة..  ما إن تنتهي حتى تبدأ أخرى أكثر مللا وأشد تزمتا.

وقف عبد الفتاح للمرة الثانية عند حافة سجادة الصلاة.. وأزمع هذه المرة أن ينوي للصلاة ويخطف ركعاتها مهما كلفه الأمر من تضحيات وخسائر. لكن البنت عادت تمسك رقبته واستحكمت بها.. وسألته وقد ألصقت وجهها الطري إلى وجهه المملوء بأشواك حادة وخزت خديها من الجهتين، سوى أنها لاستغراقها في لهفتها لم تحس بالوخز الذي حمّر جلدها وجعله مبّقّعا..

- اشتر خروف لنا وحدنا لنملكه.. خروف من التي تتهرب عبر الأنفاق.

- بس شيلي أيدك عن رقبتي.. ما معي ولا مليم أحمر.. قال أجيب خروف قال! أأسرق؟

- هو سعره غالي؟

- آه.. سعره مولع نار.. هو إحنا معانا غير ربنا. صدقيني ما معي لا فكه ولا ماسك.

- مليش دعوة.. هذا مش شغلي.. في وحده صاحبتي أهلها اشتروا لها خروفا سمينا.. وملظلظ.

ثم تابعت البنت وكان الخدر المشوب باليأس قد بدأ يتسرب إلى ذراعيها حين سألت في تشاؤم برئ ساذج.. هل ممكن يا أبتاه أن يؤجلوا العيد كي ينتظروك لغاية ما تجمع ثمن الخروف؟ أكيد ممكن؟ طب خليهم يعملوه بعد شهرين!

أعجبت فكرة التأجيل هذه عبد الفتاح وانشرح لها عقله، فرفرف قلبه للحظات وتدغدغ بحلم جميل يعرف أنه في عداد المستحيل.. وودّ من كل قلبه أن يضحك كثيرا ويفرقع بالضحك حتى يكركر، وراودته نفسه أن يقول لطفلته إن العيد بالفعل تم تأجيله.. لكن أعصابه المتحفزة أمسكت قلبه وأخمدت خفقاته في الحال.. واستطاع أن يمسك لسانه ويربطه ويحكم ربطه في قعر فمه الذي كان مواربا في تلك اللحظة. ثم عاد وترك أذنه تتسمع صوت خروف الجيران، وقد بدأ يتحسر وهو يتسمع ويتظاهر أمامها أنه لا يسمع شيئا.. ومع هذا بذل جهده لئلا يبين عليه أنه يتحسر.. ثم عاد ثانية ونصب جسده عند حافة سجادة الصلاة، وصوّب نحو الكعبة جسده وحسرته وصمته، ثم اعتدل في هدوء لا جدّ فيه ولا انفعال. بالفعل همّ عبد الفتاح أن ينوي للصلاة، وأوشك أن يفلح هذه المرّة.. لولا أن البنت بكل شقاوتها عادت من جديد تشاغبه بكلامها الكثير وأسالتها التي لا تكّن ولا تهجع.

وقبل أن ينوي راحت البنت تقترح على والدها أن تبيع حصانها البلاستيكي الأبيض، الذي أهداه لها عمها قبل موته في أول أيام الحرب على غزة.. نبيع الحصان ونشترى خروفا.. بعه.. هيا إلى السوق.. وبثمنه نشتري الخروف.. ما في أحسن من هذا الحل!

أحس عبد الفتاح بارتباك شديد أرعشه وحيره.. لكن حيرته الأشد كانت تطوقه وظلت تتنامى إلى أن طوقت خاطره وفككت تفكيره.. وأدرك في الحال أن الأمر أعظم منه وأعظم من أن يفكر فيه وحده.. وبدأ يلوم حاله ويعاتب نفسه لأنه وعدّها.. وهو الذي كان يظن أن الطفلة مع الأيام سوف تنسى. وشعر بحرج مقيت شديد مسيطر. وفكر بطريقة ما ينقذ بها نفسه من هذا الموقف العصيب المبلبل، لكنه لم يعثر في مخه ولا في خلده على أي طريقة. واعتصم ببصيص أمل بناه على مهمة زوجته التي لغاية الآن لم ترجع، ولم تسمع أذنه لها حسا. ومن الأكيد أن القعدة مع نساء الجيران أعجبتها، فنسيت نفسها وهي تطق الحنك وتثرثر في حبور مع النسوان، وتستلذ بكل ما في الكلام الفارغ من متعه.. وليس غريبا عليها أن تنافقهن قليلا لئلا ينسوا نصيبها من اللحم في أضحية الغد. ومن يدري.. ربما تلاقيها الآن جالسة ووجها ينير ويضحك في سعادة وينكت.. وهو الذي قبل قليل فقط كان مثل شرائح الباذنجان المقلي.. التصقت بعضها إلى بعض.

اقترب أذان المغرب.. ولغاية الآن لم تتح البنت أي فرصة لعبد الفتاح كي ينوي للصلاة. وسمع صوت جلبة قادما من الخارج.. فترك السجادة والبنت لا تزال متشبثة بفقرات ظهره.. وفتح الباب. ووجد جيرانه تتقدمهم زوجته.. يجرون وراء الخروف الذي لا أحد يعرف كيف فلت من مربطه.. وهرب. وكان ينطح كل واحد يلاقيه.

              

*عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا