النظارة الضائعة

حارثة مجاهد ديرانية

النظارة الضائعة

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

استيقظت من سريري صباحاً مثل كل يوم، سوى أن اليوم كان يوم عطلة، ومددت يدي إلى طاولتي الجانبية الصغيرة أريد تناول نظارتي عنها فلم أجدها، فهبط قلبي وأخذت أتحسس بيديَّ الصغيرتين سطح الطاولة مرة تلو الأخرى دون جدوى، يا إلهي لقد اختفت نظارتي!

وبدلت ثيابي بسرعة ثم انطلقت نازلاً الدرج وأنا أستعين بيديَّ في تحسس الدرابزين وأعمل عقلي كله أحاول جاهداً أن أتذكر آخر مرة خلعت فيها النظارة عن عينيَّ دون أن أتمكن من التركيز في ذلك قط؛ فقد كانت صورة أمي وهي توبخني بعنف وتحرمني -بعد ذلك- من الحلوى مدة ثلاثة أيام تقفز إلى ذهني وتتداخل مع الصور التي أحاول ذكرها من غير أن أقدر على دفعها، وقد كان كل ذلك لأنني ألقيت نظارتي -منذ مدة- على الأرض إهمالاً فديس عليها وتهشمت تماماً. وتذكرت فجأة أنني كنت ألعب البارحة مع ابن الجيران قرب شجرة البلوط العملاقة، فلعلها إذن سقطت هناك وضاعت بين الحشائش. وركضت إلى خزانة الأحذية لأتناول حذائي وأخرجته بسرعة وبدأت أدخله في رجلي فإذا هو يأبى الدخول! وجعلت أفعصه وأعالجه فلا جدوى، وبينما أنا كذلك إذ فطنت إلى وجود شخص غيري في المكان، والتفت برأسي فأبصرت جسماً صغيراً كدت أطير معه ذعراً! وقلت وأنا أجر الكلمات العالقة في حلقي جراً: "أهـ أهـ ـهـ أهلاً سهى اسـ ـتيـ ـتيـ ـقظت اليوم با با باكراً أ أ أليس كذلك!"، فأطرقت الصغيرة لحظة ثم قالت بلهجة يبدو عليها الإنكار البريء: "سهى؟ سهى ما زالت نائمة، ولكن هلا أخبرتني لماذا تلبس حذائي يا مازن؟"، وعندها امتقع وجهي ورفعت الحذاء واضعاً إياه أمام عيني وأنا أقول بانفعال: "أوه، يا إلهي، يا لي من أحمق! خمسة وعشرون وأنا مقاسي ثلاثة وثلاثون!"، فعندئذ أجابتني الصغيرة الظريفة باقتضاب: "أولاً أنا مقاس رجلي ثلاثة وعشرون وليس خمسة وعشرين وحذائي زهري اللون، وثانياً أنت تمسك بالحذاء من الخلف حيث لا توجد للمقاس كتابة!"، فقلبت نظري للحظة بين سارة أختي والحذاء ثم رميته وأقحمت يدي في خزانة الأحذية ثانية أتحسس الأحذية بحذر حتى عثرت على حذائي هذه المرة، فلبسته وقفزت إلى الباب وأنا أقول لأختي الصغيرة: "حسن، أنا ذاهب الآن فإذا سألت أمي عني قولي لها إنني في الخارج ولن أتأخر"، وفتحت أختي فمها تريد الكلام: "ولكن يا مازن أنت.."، ففتحت الباب بسرعة وأنا أقول: "فيما بعد، فيما بعد، فأنا مستعجل الآن"، وقفزت إلى الخارج بقوة فإذا بي أصطدم بأرفف صلبة من الخشب فتَسّاقط علي بعض الأغراض الصغيرة! وعندها أدركت أن أختي كانت تحاول تنبيهي إلى أنني إنما كنت أفتح باب مخزن المدخل لا باب الزقاق! وألقيت نظرة تأنيب على وجه أختي الجميل من غير أن يتبين لي من ملامحه شيء وسمعتها تقول: كنت أحاول إخبارك!

وصلت شجرة البلوط الضخمة القريبة دون كبير عناء، إذ لم يكن قصر نظري يعجزني عن تبين معالم الطريق العريضة. وعندما اقتربت من الشجرة رأيت كرة بيضاء عملاقة لم تكن هناك بالأمس، فلما اقتربت أكثر سمعت للكرة شخيراً لا يخفى على أحد، وقلت في نفسي عجباً، ومنذ متى تشخر الكرات! فإذا به جارنا أبو حمدون! وهو من الأشخاص المعدودين الذين رأيتهم في حياتي يكاد عرضهم يساوي طولهم لشدة امتلاء بطونهم!! إلا أنني تركت صاحبنا النائم وقيلولته وشرعت أبحث بين الحشائش. فدرت حول الشجرة وأنا أتحسس العشب بيديَّ مراراً من غير نتيجة، حتى وقفت أمام العملاق النائم ولم يبق إلا أن تكون نظارتي العزيزة قابعة تحته! وأخذت أهزه وأصرخ بأعلى صوتي: "أبا حمدون! استيقظ! أرجوك استيقظ أيها العم أبو حمدون!" فلم يرف له جفن ولم تتحرك قطعة واحدة من جسده الضخم الذي غطى ثلاثة أمتار مربعة قيد أنملة، حتى وقفت إزاءه يائساً مفكراً.

كانت أشعة الشمس التي لم تكن قد ارتفعت كثيراً حتى ذلك الوقت تتخلل أغصان الشجرة المنخفضة وتداعب وجهي، وأخذت أتصور في رعب وفزع ذلك العملاق المدور وهو يأتي إلى الشجرة في الصباح الباكر ويلقي بجسمه المكتنز فوق نظارتي الجميلة الرقيقة فيسحقها سحقاً ويحطمها إلى قطع ويطلق من بعد ذلك شخيره المرعب العالي مرتاح البال، ثم ذهبت تلك الصورة وحلت محلها صورة أمي وقد ازداد طولها عما أعرف ثلاثة أضعاف، تنظر إلي من طرفي عينيها بعين الغضب الرزين وأنا واقف قرب رؤوس أصابع قدمها وتقول لي وقد وضعت إحدى يديها على خصرها ووجهت الأخرى نحوي مشيرة بسبابتها أنْ "لا تحلمنَّ بلقمة حلوى حتى نهاية الأسبوع أيها المهمل الصغير"! وبينما أنا كذلك إذا بظل ظليل يواري وجهي ويوقظني من أفكاري، واستغربت للحظة أن تحتجب الشمس وراء غيمة في هذا الوقت من السنة حيث لا غيوم؟ وحملقت جيداً فإذا بي أرى أمام ناظري كتلة بيضاء ضخمة (وكأنها "جبيل" صغير) تنقض علي من حيث لا أحتسب! ولم أحر في لحظة المفاجأة وقتاً للفرار حتى أطبق علي بطن أبي حمدون السمين وصرت عالقاً بين بطنه من "فوق" والأرض الخضراء من "تحت"! وأخذت أستنجد وأصيح ولا مجيب، ثم أخذت أحاول قرصه لعل ذلك يوقظ العملاق من رقاده أو يدفعه إلى تقلب معاكس فلم تقدر أناملي الرقيقة على الإحاطة بجلده السمين! وخلصت إحدى يدي من تحت بطنه وحاولت أن أنتزع بها من الجوار أي شيء يمكن أن ينقذني من مثل هذا الحصار، حتى انتزعت بأصابعي بعضاً من الحشائش الطويلة، فمددت يدي قدر ما أطيق -وقد واتتني فكرة- نحو أنف أبي حمدون، حتى قدرت على أن ألامس طرف أنفه بحشائشي الطويلة تلك، وأخذت أهز الحشائش وأدغدغ بها أنف الرجل حتى انتفض فجأة وجمع إلى صدره شهيقاً مفاجئاً ثم جعل ينفث بصدره الواسع: "آ.. آها.. ها.. ها.. هاااا".. يا للهول! إنها بادرة عطسة! وعطس العملاق عطسة خلت معها أنها ذهبت بحشائش الحديقة كلها وتركتها قاعاً صفصفاً لا شيء فيه! وإنما لم يحدث ذلك حقيقةً والحمد لله، وحتى رأسي بقي بين كتفيَّ سالماً معافى ولم يطر مع ما طار من أشياء! وتنحنح أبو حمدون قليلاً ثم جاء الفرج وبدأ يتمايل فمال عني قليلاً وعندها استغللت هذه الفرصة الثمينة وانسللت من تحته هارباً بنفسي، وحالما ابتعدت عنه قليلاً اشتد تمايله وتقلبه فمال يمنة ويسرة حتى عاد فانقلب فوق المكان الذي كنت فيه وزاد عليه نصف متر وارتجت الأرض من تحته وكأنه زلزال! وكان ذلك ممتازاً لأنه سيمكنني الآن من فحص المكان الذي كان مستلقياً فوقه، فدرت حول جسم أبي حمدون دورة ليست بالقصيرة حتى ألفيت العشب مكان ما كان مستلقياً قد صار مضغوطاً حتى صار مثل سجادة خضراء! وتفحصت المكان جيداً لعلي أعثر على بقايا نظارتي فلم أقف لها على أثر، وقمت عن المكان بسرعة قبل أن يدهمني ذاك العملاق بتقلب آخر قد لا يبقي عليَّ هذه المرة وليس كل مرة تسلم الجرة!

عدت إلى المنزل أجر أذيال الخيبة، ودخلت وأنا أسمع أصواتاً آتية من المطبخ، فتسللت بهدوء على أطراف أصابعي حتى بلغت باب المطبخ الذي كان لا بد أن أمر ببابه وأنا في طريقي إلى غرفتي في الطابق العلوي، وأبرزت رأسي مستطلعاً فرأيت أختيَّ الصغيرتين مع أخي الذي يصغرهما سناً على طاولة الإفطار الفاخرة التي أعدتها أمي الماهرة، وأمي واقفة تسكب لإخوتي الطعام مولية لي ظهرها فقالت: "مازن، أهذا أنت؟ أين كنت طوال هذا الوقت؟"، فاجتزت الباب بقفزة سريعة واحدة وأنا أغمغم: "سآتي إليكم بعد قليل يا أماه". وأسرعت الخطى نحو غرفتي فدخلتها ثم أغلقت الباب ورائي، وسرت بهدوء نحو سريري وأنا أعيد التفكير فيما جرى معي اليوم وأحلل كل ذلك؛ لقد رأيتُ أنني تكبدت الصعاب في اختيار حذاء ومعرفة أخت! فكيف تمكنت إذن من قطع كل الطريق من شجرة البلوط إلى منزلنا (حتى وإن كان هذا الطريق قصيراً) دون أي صعوبات ودون أن ألاحظ أنني فقدت نظارتي؟! من الواضح تماماً أن تخميني بوقوع النظارة عند شجرة البلوط كان واهياً للغاية، فلا بد إذن من أنها فُقدت هنا في المنزل قبيل نومي مباشرة. ومضيت إلى سريري وهويت بجسمي عليه لأقعد وأتابع تفكيري، وعندها سمعت صوتاً وشعرت بشيء ما تحتي، فقمت بسرعة وأزحت غطائي عن السرير.

"حسن لا بأس، على الأقل يمكنني أن أطمئن الآن لأنني عثرت على النظارة".

قلت ذلك وأنا أنظر إلى حطام نظارتي وقد صارت ثلاث قطع بعد أن كانت جميعها قطعة واحدة! وعند ذلك سمعت صوت أمي تناديني إلى الإفطار، فأجبت بأعلى صوتي: "أنا آت!"، ثم أعدت تغطية ما بقي من نظارتي العزيزة ومضيت إلى المطبخ مسرعاً أستعين بيديَّ في تحسس الطريق!