جراح منتصف الليل

جراح منتصف الليل

ليلى رابح / الجزائر

[email protected]

راحت سعدة تجول أرجاء البيت الواسع و قد انتابها قلق فظيع لماذا لم يعد أحمد حتى هذه الساعة ؟ لا شك أن سوءا قد أصابه " ماذا أفعل يا إلهي "

هاهي تطّل من جديد بوجهها الملائكي الرائع من نافدة غرفة الجلوس ... لا أثر لسيارته من بعيد .. و عادت تروح و تجيء يمينا و شمالا و الأفكار السوداء تتجاذبها بين الحين و الآخر إلى أن سمعت صوت سيارته و هو يدخل فناء البيت .

سارعت نحو الباب و الفرحة تغمرها ، لكنها تمالكت نفسها و رسمت على وجهها تكشيرة تنّم عن قلقها و خوفها عليه فهو زوجها الحبيب و أخوها و والدها و كل من لها في هذه الدنيا بعد وفاة كل أفراد أسرتها في حادث رهيب .

ترّجل أحمد من سيارته حاملا حقيبته الطبيّة كعادته و سار بخطى متزنة متأهبا لفتح الباب ، لكن سعدة فتحته قبله ، حاولت أن تعبس في وجهه لتأخره لهذه الساعة لكن حنينها و خوفها عليه فضحاها ، فعانقته معاتبة : " لم كل هدا التأخير حبيبي ؟ لقد كدت أجّن خوفا و قلقا "

فاستطرد قائلا ،" آسف حبيبتي لقد اضطررت لإجراء عملية دقيقة لمريض نقل إلينا  في حالة مستعجلة. "

سعدة : " و لكن ...   و قبل أن تكمل سعدة قولها

قاطعها أحمد :" أعلم أن مناوبتي بعد يومين و لكن بسّام اضطر للسفر و سأخلفه طيلة الأسبوع ."

سعدة : "أفهم من كلامك أنك ستتأخر باقي الأسبوع الى هذه الساعة و تتركني فريسة للـــقلق و الوحدة ".

أحمد : " هذه طبيعة عملي يا حبيبتي و أنت من شجّعني على امتهان الطب ، أنسيت ؟ "

سعدة :" كلا ، كلا لم أنس و مهنتك أشرف مهنة على وجه الأرض ، أذكر أنك كنت تتوق لامتهان التجارة ، لكني أصرّيت عليك لدخول كلية الطّب ، و لم أندم أبدا فإنقاذك حياة مريض إحياء للناس جميعا ، لكني أشتاق إليك و أخشى عليك السياقة ليلا" .

أحمد : " لا تخشي شيئا حبيبتي ، لن يحدث لي أي مكروه."

 و بعد تناول العشاء ، خلدا للنوم فقد كان كلاهما منهك القوى .

و في صباح اليوم التالي ، توجّه أحمد رفقة زوجته ليفتتحا عيادته الخاصة الكائنة غير بعيد عن مسكنهما .

عمل هناك حتى الزوال ثم عادا معا للبيت ليأخذ  أحمد قسطا من الراحة ليواصل عمله بالمستشفى مساءا.

و استمرا على هذا الحال عدة أيام و في كل ليلة كان أحمد يزداد تأخرا فلا يعود إلى البيت إلا سويعات قليلة قبل الفجر وازداد قلق سعدة و بدأت الشكوك تساورها سيّما بعد انقضاء الاسبوع و عودة بسّام الطبيب المسؤول عن المستشفى و صديق أحمد الحميم .

كانت سعدة  تتحرّج من مضايقة زوجها بالسؤال عن سبب تأخره ، فالأسباب معروفة أو على الأقل أجوبة أحمد لم تكن لتخفى عليها ، حالة مستعجلة ، عملية مستعصية ، نيابة زميل و هلّم جرّا كلها أعذار ضاقت سعدة بها ذرعا و لم تعد تقنعها خاصة بعد ما علمت بالصدفة من زوجة بسّام ، أنه لم يسافر قط مؤخرا ، كما زعم زوجها ، الشيئ الذي عمّق مخاوفها فهي لم تعهد أبدا أن يكذب عليها أحمد أو أن يخفي عنها شيئا مهما كان حقيرا .

وفي غمرة ظنونها و هواجسها ، قامت ذات ليلة من فراشها بعد أن رأت كابوسا مزعجا حقا بل و مريعا ، حلمت فيه أن زوجها يحمل مشرطه و يسير نحوها ببطئ  متناه إمعانا في ترهيبها ، لكنها استيقظت قبل أن يصل إليها . حمدت الله على أنه مجرّد كابوس سبّبه لها قلقها الزائد و أفكار خيالها الواسع و مافتئت تضع رأسها على وسادتها حتى عادت تحاور نفسها من جديد ، لكن كذبته لم تكن خيالا و تأخره كل ليلة ليس كابوسا ، إنها حقيقة . ثمة سرّ في الأمر ولا بدّ أن أعرفه .

أتراه يعاشر امرأة أخرى ؟ أيعقل أن يقدم على خيانتي بعد كل سنين الحب و العطاء هاته ؟ كلاّ .. لا أصدق هذا فهو متيّم بي و لايزال ؟ هل يعمل حقا بالمستشفى كل ليلة ؟  هل ينتقم مني لأني دفعته لامتهان الطب بعد ما كان يميل لممارسة التجارة و الأعمال الحرة ، فهي أسرع ربحا و أكثر راحة على حد قوله ؟ كلا .. كلا .. هذا غير منطقي بتاتا ، يتأخر كل هذا الوقت و طيلة هذه الأيام من أجل إغاظتي فقط ؟ لم يفعل ذلك الآن ؟ لم لم يفعل هذا في أصعب المراحل التي مررنا بها ؟ كلا .. كلا لقد صرت أخلط الأمور و لم يعد فكري واضحا أبدا . لكن لم يكذب ؟ لو لم يكذب و يدّعي أن بسّام مسافر لما كنت لاشك به ثمة لغز لا بد لي من حلّه و سأفعل ، هكذا قرّرت سعدة بينها و بين نفسها .

ارتدت ثيابها في عجلة من أمرها و استقلت سيارة اجرة و قبل أن تصل وجهتها ، لمحت سيارته و قد غادرت المستشفى ببضع أمتار ، فأمرت  السائق أن يغيّر وجهته و طلبت منه اقتفاء اثر سيارة زوجها ، تذمّر السائق وتمتم ببضع كلمات لم تستوعبها سعدة ، لكنه امتثل لأمرها .

كان زوجها قد اتخد طريق العودة إلى البيت فاحتارت ولعنت لحظة خروجها من بيتها للتجسس عليه و كادت تنهار لفكرة وصوله قبلها الى البيت ، لكنه سرعان ما سلك الطريق المؤدية الى العيادة ، ازدادت حيرة سعدة و لم تدر هل تفرح لأنه لم يسلك طريق البيت و لم يكتشف خروجها ام تزداد قلقا لتوجهه الى عيادته الخاصة في مثل هده الساعة .

ركن أحمد سيارته أمام باب مبنى العيادة ، نزلت هي من سيارة الأجرة والسائق لا يزال يتمتم متعجبا من أمرها فقد كان الوقت متأخرا جدا . لمحت سعدة أحمد و هو يجرّ شيئا بالكاد كان يحركه. استغربت للأمر وارتعبت ايّما رعب لكنها حبست أنفاسها و تبعته في سكون .

 

كانت العيادة في الطابق الثالث والأخير و كانت البناية مظلمة ظلام لغز زوجها الذي فضّل عدم إنارة الدرج عند دخوله و لم تفعل هي حتى لا يكتشف امرها . ظلّت تتبعه و مع كل درج كانت تصعده كانت روحها تصعد معها لشدة خوفها و ارتباكها .

مادا بوسعه أن يعمل في العيادة  في مثل هذا الوقت ؟ هل يلتقي بعشيقته هنا ليلا ؟ هل سأجده بين أحضانها ، كلا لن أطيق ذلك .... فكرت في العودة لكنها تعالت على نفسها و صرخت في أعماقها ، لا بد أن أنهي هدا العذاب ، لابد أن أكشف الحقيقة .

و بينما هي تستعد لصعود آخر درج سمعت قرع نعال خلفها ، سارعت خطاها و اختبات في زاوية من الطابق الثاني  و أطلت فإذا بها تلمح شبحا يصعد و بيده شيئ ما ، إن هذا الشكل ليس غريبا عنها . دّق الجرس ، أضيئت العتبة و ۥفتح الباب ،  لقد كان النور خافتا ، لكنّها استطاعت أن تتعرف على الزائر لقد كان بسّام ، زاد فضولها أكثر فأكثر و عزمت على  مباغتتهما بعد أن انتظرت بضع دقائق استجمعت خلالها كل شجاعتها و تصميمها على مواجهة الأمر مهما كان .. تقدّمت بخطى متثاقلة و بسطت يدها في تردد واضح،  تقبضها حينا و تمدّها أخرى ثم دقت الجرس بكل رباطة جأش. و في الوقت ذاته الذي تفاجأ فيه أحمد و بسّام برنين جرس الباب و تساءلا في حيرة و ريبة عمّن يكون الزائر في مثل هذا الوقت ، وقد ظنّا أنه أحد الجيران ، كانت سعدة تتساءل عن موقف زوجها منها و كيف تجرأت على التجسس عليه و ملاحقته ليلا من المستشفى حتى  عيادته .... و بينما هي مسترسلة في تخمينها ، جمع صوت قفل الباب و هو ۥيفتح شتات أفكارها  و تأهبت لمواجهة زوجها لكنّ من فتح الباب كان بسّام و قد كان مرتديا مئزره ممّا أذهلها،  تقدّمت سائلة عن زوجها و ما كاد بسّام يجيبها حتى لمحت و هي تجول ببصرها في كل أنحاء الشقة ضوءا في الغرفة المقابلة دفعت الباب بقوة ... تبعها بسّام ليمنعها لكنّها فعلت و رأته و يا لهول ما رأت حتى أنه أغمي عليها من شدة الفزع لقد رأت زوجها العزيز بمئزره و بيده المشرط كما رأته في الحلم ، لم يكن يجري عملية لمريض لا !لقد كان يستأصل أعضاء من جثة شاب صغير بدا أنه توفي حديثا ، أهذا ما كان بالكاد يجرّ و هو يدخل البناية ، هل يقوم باختطاف جثث مرضى المستشفى ليسرق أعضاءهم و يحفظها لإجراء عمليات أخرى تدّر عليه أموالا طائلة ؟  أهذه هي التجارة المربحة التي طالما حلم بها ، تجارة الأرواح ، هل هذا هو أحمد الذي أحــبّـــته و قضت معه أحلى سنين عمرها ... أيعقل أن يتواطأ هو و بسام على هذا العمل المشين ؟ أينقدون أرواحا على حساب أرواح ؟ .

غرقت سعدة في غيبوبة قصيرة ، عمل أحمد على إيقاظها منها لكنها بمجرّد أن أفاقت و ما أن  رأت وجه زوجها و صديقه حتى اغرورقت عيناها بالدموع ، حاول أحمد أن يقترب منها  ليهدئ من روعها لكنها صرخت في وجهه ، أبعد يديك عنّي أيّها القاتل .. لا !لا  تلمسني! لا! .. لا !... و راحت تصرخ و تصرخ في هستيريا أشبه بالجنون .

خاف الجراحان من الفضيحة، فلقد تعالت صيحاتها و ازدادت حدّة ممّا دفعهما لإعطائها مخدّرا قويّا يجعلها تنام يوما كاملا.

و تمّ ذلك بالفعل  أكملا الزميلان عملهما في صمت رهيب قاتل ، أحمد يفكّر في علاقته مع زوجته و كيف يستطيع النظر في عينيها البريئتين مجدّدا ، هل يستطيع إقناعها بخلاف ما رأت و أن ذلك لم يكن سوى كابوس مزعج أو أن كل ما رأته كان خيالا و أنها حسبت المريض الحيّ جثة ، هل ستفضحه ؟ هل ستبلغ عنه ؟ لكن كل ذلك لم يكن يهمه بقدر ما أهمّه فقدان زوجته الحبيبة . أمّا بسّام فكان يخشى أيضا على مستقبله لا سيّما أن وضعه بالمستشفى حسّاس جدا ، فهو الطبيب المسؤول و كل شيء يتم بأمره و موافقته ، كان يخشى أن يفقد كل شيء و يخسر زوجته هو الآخر .

و بين كل تلك التخمينات و الأفكار المتضاربة ، كانت سعدة غارقة في سبات عميق و كأنها لم تنم من سنين ، كان أحمد يتفقد نبضها من حين لآخر ، فقد خشي عليها من قوة المخدر الذي حقنها به .

و في صباح اليوم  التالي، توجّه بسّام إلى بيته مغادرا العيادة.

 و حمل أحمد زوجته للبيت ووضعها في سريرها ليوهمها بأن كل ما ستقوله بعد استيقاظها كابوس مزعج و عزم في قرارة نفسه أن يتوقف عن عمله ذاك و أن يهتم بزوجته أكثر ويعوّضها عن كل ما رأته و عانته في غيابه و انشغاله عنها .

و حان موعد استيقاظها، السادسة أو السادسة والربع ، كان يعلم مسبقا ميعاد انتهاء مفعول المخدّر ، كان نجيبا جدا و هو طالب في كليّة الطب و ذكيا لأبعد الحدود ، لكن ذكاءه خانه هذه المرّة ، مرّت السادسة و مرّت السادسة و الربع و السابعة و سعدة لا زالت غارقة في نومها ، اقترب أحمد من زوجته و قد اصفّر لونه ، أمسك بسماعته و يداه ترتجفان تحسّس قلبها الكبير الذي احتواه لسنوات فإذا به ساكنا سكون الموت حاول تنشيطه حاول إيقاظها ، لكن عبثا كان يحاول ، فقد أسلمت الروح مند بضع دقائق ، لم تتحمل المسكينة هول الصدمة ، كما أن المخدّر كان فعّالا أكثر من اللازم و قويّا جدا بالنسبة لمن لم يتعاط  في حياته أي قدر و لو بسيط جدا منه ، مثلما كان حال سعدة ، لقد خانه ذكاؤه بالفعل هاته المرّة ، كيف يعطيها ذلك الكمّ الهائل من المخدّر و هي منهارة أو لم تكن تهمّه حياتها ، لقد قضى عليها مرتين بل ثلاث ، عذبها بغيابه و انشغاله عنها و حطمّها بعمله الشنيع و وضع حدّا لحياتها بمخدره القوي . هكذا كان يهذي فموتها أتى على ما بقي من حطامه ، لقد دمّر نفسه بنفسه ، ما عساه يفعل بكل تلك الأموال ؟ مع من سيتقاسمها ؟ و هل تحلو الحياة من غير سعـــدة ؟؟ و ليتها أموال طاهرة إنها نجسة نجاسة فعلته . لقد ضيع ثروته الحقيقية التي كانت بين يديــه و لم يشعر بقيمتها إلا بعد رحيلها و تسربها من بين يديه . لقد عبث بجثث عديدين فهل سيعبث بجثة سعدة ، فالقلب سليم و أعضاء أخرى   سليمة أيضا ، هل أقوم باستئصالها لأواصل سلسة جرائمي ، هكذا كان يعذب نفسه بهذا  القول و توجّه كالمجنون نحو حـــقيبته و أخرج مشرطه كعادته و توجه نحو جثة سعدة باكيا مرتجفا و همس في أذنها " أحبّك ... سامحني " و غرز المشرط عميقا في بطنه منتحرا ، لم تكن الدنيا كلها و لا حياته تهمّه بعد أن فقد حبيبته سعده ، لكنّه أدرك أنه كان جبانا لآخر لحظة في حياته ، لم يكن يخشى السجن أو الفضيحة بقدر ما لم يكن يستطيع تحمل تأنيب ضميره و تأنيب روح سعدة . و في تلك اللحظة بالذات ظل بسّام يتصل بالهاتف و بعد أن يئس من رّد أحمد و زوجته تنقل لبيتهما ليجدهما جثتين هامدتين تصلحان لجراحة أخرى في منتصف الليل.