لها منه فقط الحروف
لها منه فقط الحروف
سلطان الزيادنة
في ركنٍ صغير من هذا العالم المتحضر جدا كانت تجلس قرية على كتف نهر يمشي وئيدا كعجوز أثقله طول السير من أول الدهر....هذه القرية كانت مصابة بهوس المدينة الفاضلة وكانت فعلا فاضلة حد التقزز، فما أن تبلغ الفتاة العاشرة من لعنتها حتى يُختزل العالم كله في غرفة في بيت خاوٍ كعقول أصحابه....وحدها دميتها القبيحة التي صنعتها لها الجدة من بقايا ألبسة قديمة كانت الأنيسة ...في زمن لا أُنس فيه ولا إنس ،تكلمها ..تلاعبها ...ترتجي سلوتها فيها و معها...وبها.
الأب يجلس في صحن الدار ينفخ دخان تبغه كقطار بخاري مزكوم باحتراق خشبه العفن....ينفخ بنزق مفتعل .كأنه ممثل مبتدئ في مسرحية سيئة الإخراج.
-البنت كبرت وصار لزاما أن نسترها...يُحدِّث الزوجة البائسة ككل جنسها بلهجة حادة فيها استعراض واضح،وترد الزوجة بخنوعٍ اعتادته:
-أي والله ,البنت مالها غير بيت زوجها....أنت أبوها وسمّيها.
-سأزوجّها لأول طالب يدٍ اوطارق باب....حتى لو كان مجنون القرية.
وفعلا حصل ما اشتهى الأب المسكون بموروثة البنت عار إن لم تحصَن في زواج ودار-يا للفرح الذي ينتظرك يا فرح!-....رأس يوحنا المعمدان المفارق جسده عنوة لن يطريه انه قدم على طبق من فضة للظُلمة.
أبو زيد شاب في الستين خرج من حداده على زوجته الأخيرة ..كان قد تزوج قبلها نساء كثيرات لكن كن يمتن لحسن حظهن ويبقى هو...
قرر اخيراً أن يكمل نصف دينه-لله دره كم نصفا أكمل-الرجل المؤمن يريد أن يضمن الجنة!...
بعد صلاة العشاء وهو خارج من المسجد التقى أبا فرح ...تحدثا قليلاً عن الصحة والحصاد ووو ..وفي نهاية حديث ممل طلب يدها فوهبها له كلها و دميتها على البيعة..
-"تراها جاءتك هدية ما من ورائها جزية"...قال الأب برجولية ممسرحة.
-"وأنا رديت الهدية بهكتار ارض من ارضي القبلية...الفاتحة....قال شاب الستين وهو يفتّل شارييه فرحا بإبرام صفقة رابحة بكل المقاييس التجارية.
عاد الأب الحنون لداره فرحا بالغنيمة ونادى ألام..
-جهزي فرح للفرح ...غداً أزفّها إلى الحاج أبو زيد.
حتى الآن فرح لا تعلم شيئا,نامت ليلتها الأخيرة برتابة كل الليالي لكنها أفاقت قبل الجميع وعلى غير عادتها
فالشاة الذبيحة تفيق باكراً،حتى قبلَ أن يفيق الصباح ....
باستكانتها المعتادة هرعت ألام لبنتها فرح وألبستها فستانا ابيض تداور على لبسه كل نساء العائلة ..ربما حتى من عهد عاد .
-أمي هل سنحضر عرسا في القرية ؟!قالتها بسذاجة وشاهد يدها اليسرى يتوارى ربعه في فمها .
-لا تكوني كثيرة غلبة , كوني مطيعة فقط ولا تتسببي لنا بمشاكل مع أبيك فيعزرُنا.
امسك الوالد فرح بنت الاثني عشرة خريفا أراهن بوذا أن لا ربيع واحد فيها وقادها لبيت بعلها كشاة تقاد الى المسلخ دون حتى ان تدري ما ينتظرها من فرح لعين.
وجدت نفسها أخيرا في بيت غريب لا تعرف حتى حيطانه...وحدها ودميتها الدميمة والله وعجوز اكبر من جدها.
غلّق عليها الأبواب وقال هيت لي.
-جدي ماذا تفعل؟
-لماذا تخلع عني الفستان؟هل هو لك؟!.
ما صبر على جهلها وبدأ ينهش بها كذئب منع الإفتراس أربعين يوما....وبحسها الغريزي ...استخلصت ما تبقى منها وهربت منه ما استطاعت الى الهروب سبيلا ......ركضت دونما اتجاه تحدده او تعقله... لا باب مفتوح.. ثمة نافذة صغيرة بلا شباك تعثرت بها عيناها ..هرعت اليها ترتجي خلاصها ..قفزت منها وأطلقت لرجليها الصغيرتين العنان...(.إلى أين ستهربين يا فرح وكل الدروب إلى هلاك؟!...)
وصلت بيتها أو ما كانت تظنه ملاذها الآمن منهكة ..وممزقة لاتملك من روحها إلا ما بالكاد يقوى على حمل رجليها،الحمد لله الآن بامكانها ان تلتقط انفاسها وان تنفث زفراتها الحرّى وصولا للهدوء والسكينة بعد كل هذا العناء ....
-ابي غادرتم الفرح ونسيتموني!...العجوز كاد يقتلني من اجل فستان!قالتها دون أدنى اتهام وببراءة زائدة، معتبرة ان كل ما حصل مجرد سهو ونسيان من قبل أبيها لاغير.(طيبة في زمن الذباب)
صفعة قوية غطّت كل مساحة وجهها الصغير...
-يا بنت الــــــــ فضحتينا.. اللعنة عليك وعلى أمك ...انفجر الأب بهستيرية و شرار الغضب يقدح من حدقتيه.
حملها كشوال أرز وسار بها إلى بيت أبي زيد على أمل أن يغفر له خطئية الآثمة ويستر ما بدا منها.
عاد دونها وتركها مع بعلها الرائع المتسامح.
أدركت أخيرا أن لا عاصم لها إلا الهروب ،لكن هذه المرة لن تهرب لوهم البيت وبيت الوهم، ركضت وركضت.....ثم اختفت للأبد...
جدّ الجميع في البحث عن فرح ...الأب والعائلة والزوج المنحوس...والقرية كلها ...لكن لا احد وجدها...
اختفت كطيف من نور وسخط...وحدها السماء تدري .
شاهد عيان قال:-أنها هربت إلى المدينة وافترسها جدٌّ آخر .
شاهد عيان ثانٍ ادعى انه رأى بأم عينيه سحابة بيضاء حطت على فرح عند رأس الجبل... التقطتها كحمامة واختفتا في جفن السماء.
شاهد عيان أخير يجزم انه رأى دمية دميمة تسبح وحيدة في النهر.
تمت