ذو اللثام
عمرو الغامدي
[email protected]
كانت خطواته تتسع كلما اقترب من
المنعطف الأخير نهاية الشارع , ورغم الإضاءة الدافئة المعلقة على جدران الحيّ ..
كان النور يتلاشى قبل أن يصل إلى لأرض , وأعين ساكني الحيّ تطارده من النوافذ مثل
وخز النحل , أخذ المنعطف بسرعة وبدأ يجري متجاوزًا بقعًا قذرة انتشرت على جانبي
الطريق الضيّق .. حتى انتهى إلى باب حديديّ برزخيّ في زاوية ضيقة, فتحه .. وأغلق
العالم خلفه . تباطأت سرعة أنفاسه التي كادت أن تُرى من كثافة الغبار ! أشعل
الضوء الخافت الذي ما لامس كتفيه حتى قتله البرد , مشى بتثاقل عدة خطوات قصيرة إلى
نهاية الغرفة ثم وقف أمام المرآة .. اللثام يُخفي نصف وجهه , عينه اليسرى لا تنام
جوار اليمنى تمامًا بسبب شطبٍ يقسم المرآة إلى عالمَين , اهتز لثامه موحيًا أنه
يقول شيئًا, لم يسمع صوته فأعادها مرة أخرى بصوت أعلى متقطّع : " أنت .. أنت أيها
الضخم في المرة القادمة اشرب قهوتك بعيدا عني !"
مال بعينيه وجعلهما أكثر حِدة وتابع :
" لو سكبتها مرة أخرى على يدي سأجعلك تصرخ , حقاً سأفعل ذلك ! "
تراجع عن المرآة قليلاً ورفع يده
ليُنزل اللثام عن وجهه .. وقاطعه صوت من زاوية الغرفة :
"أنت حتى لم تصرخ حين سكبَ الضخم قهوته
على يدك , حقاً ستجعله يصرخ ؟"
" مَن هنا؟! " قالها وهو يلتفت ناحية
الصوت بشدة ..
لكن الآخر ظلّ هادئًا وهو يجلس على
الكرسي الوحيد في تلك الغرفة بعد أن نفضه من الغبار, وقال : " لا مشكلة في الأبواب
يا صديقي , إنها تقبل زائرها من الجهتين .. "
لم ينزع الأول لثامه وأدار ظهره متجهاً
لزاوية الغرفة الأخرى .. " تبعتني من المقهى إلى هنا لتخبرني فقط أنّ الضخم أرعبني؟
"
" يسكب قهوته على يدك , ثم تعتذر منه
.. وتلقي اللوم على مرآتك التي شطبها العتب ! "
" ليس من شأنك .. "
" حين خرجتَ من المقهى .. كيف فعلت ذلك
الأمر ؟ "
وقام متجها إليه حتى وقف خلفه تمامًا
ثم تابع : " الرجل خارج المقهى .. ما الذي رآه خلف لثامك حتى هرب منك كالطفل ! "
***
على ناصية الشارع الخلفي المؤدي إلى
غرفة "وليد" ذي اللثام , يقع مقهى صغير يقضي فيه معظم وقته .. ولأنه لا يملك الجديد
, فكل نشاطاته الذهنية تذهب به إلى القديم , إلى الوراء , مثلما يسحب الموج غريقًا
, ولازال في كل مكان يذهب إليه يلازمه شعور الرقابة .. كل الأعين تقتصّ منه جزءًا
فلا يبقى لعينه مكانٌ تركن إليه , في آخر مرة.. تعثر رجل ضخم فوقعت قهوته على يد
وليد .. اعتذر الأخير للضخم سريعاً وغادر المقهى فوراً دون أن يترك أثرًا يُستدلّ
به على رجلٍ قد كان هنا .
في الخارج كان وليد يمسح يده بمنديل
مزقته حرارة القهوة , وجِلْده الأحمر كان مدفأة الحيّ البارد , اقتربَ منه أحد
المارّة باهتمام وعرض عليه المساعدة ..
اكتفى وليد بالإشارة بيده الأخرى
موحياً بالشُكر , ابتعد الرجل لكن سرعان ما استوقفه :
" بإمكانك أن تقدم لي مساعدة إذا رغبت
.. "
تقدّم إليه وتحوّلت نبرة وليد إلى
الهمس : " سأنزل لثامي , وسوف أبتسم .. أخبرني إن كان ما تراه يبدو كالابتسامة "
.. أومأ الرجل مترددًا بالإيجاب .
أنزلَ لثامه بعد أن اقترب منه .. رجع
الرجل للوراء بعد ثانية واحدة وعلى لسانه : " مجنون .. مجنون! " وهرب تاركًا
وليد خلفه يعيد لثامه لموضعه , عقد يديه أمام صدره حاضنًا برده ثم مشى عبر الشارع
إلى غرفته.
***
" إذن , لأجل هذا تضع اللثام دومًا ..؟
" قالها "عماد" الذي دخل الغرفة مؤخرًا وهو يجلس على الكرسي مرة أخرى , بينما
يقف وليد خلفه بمحاذاة النافذة الصغيرة المطلة على زقاق ضيق خلف الغرفة .. دار دورة
حول المكان قبل أن يجلس على الأرض تاركاً ظهره ينزلق على الجدار مثل قطرة ندى
انفصلت عن العالم :
" نعم .. قطعة من الصوف تعزلني عن تهمة
الجنون ! "
" قد تمشي في الشوارع وتطلب من الناس
أن يخبروك إذا ما كنت تبتسم أم تغضب , هذا جنون بالطبع ! ولكن حين تفقد الشعرة
التي تربط إحساسك بملامحك .. ستكون مهرّجًا ! "
غاصَ حاجبا وليد نحو عينيه .. ثم عادا
ببطء وهو يتحدث دون أن ينظر إلى عماد :
" إذا كنتَ تعتقد أنك في
' سيرك
' .. فلن تشاهد حمَامًا هنا يخرج
من فمي , ليس إذا كان فمي متاهة تتغيّر كل لحظة .. "
" أخبرني فقط , كيف تحوّلتَ إلى متاهة
"
" أنا لا أعرفك حتى .. ! "
***
عانى وليد مؤخرًا من ذلك الأمر الذي
جعله يخفي وجهه تحت اللثام ويجوب الشوارع مثل لصّ يعقد صفقاته مع الأرصفة والدخان ,
كان منذ صغره وعاءً لم يختر شكله .. يغرف من محيطه ولا يفرغ للخارج , هكذا ظلّ
الوعاء يبلع ما ليس له أبدًا !
كان رأيه ريشة تحلّق في الجو وتتبع من
يمرّ بجانبها , حتى يثيرها مرور شيء آخر فتتبعه ولا تملك أن تختار طريقا وحدها ..
لأنها إن فعلت ذلك ضلّت ولم تجد جسداً تعلق به . يصعب عليه أن يرفض .. يتبنى رؤىً
.. يشعر بالخوف من مجرد فكرة غضب زملائه منه فيجعله هذا عجينة تلائم أيّ يد تمسكها
, عانى وليد من هذا كثيرًا .. حتى اختلقت معاناته جيشًا من الرفْض يقوده الإحساس
بداخله .. نحو ملامحه التي كانت على الجبهةِ تحالف كل أعدائها , انفجر ذلك الرفْض
الهائل وفجّر معه كل خيوط الوصل بينهما , وأصبحت ملامحه تعمل وحيدة ً .. لا يربطها
بإحساسه شيء على الإطلاق !
أسندَ وليد رأسه إلى الحائط بعد أن
أقنعه عماد بالحديث عن نفسه , كان ينظر إلى نقطة معينة في السقف وهو يتحدث ببؤس :
" أشعر أن ملامحي وإحساسي , خطّان
متوازيان .. لا يلتقيان أبدًا "
نظر عماد إلى ذات النقطة التي كان ينظر
إليها .. وتابعَ وليد :
" من الخارج يبدو سقف الغرفة متعاونًا
مع أرضيّتها لجعل هذا المكان مناسبًا للحياة .. ولكن من الداخل هناك صراع كبير بين
الاثنين .. أتدرك هذا؟ ينظر كلاهما للآخر في صمت وكُرْه .. فأحدهما يُوطأ بالأقدام
, والآخر تُقذف عليه مهملات العمارة الطويلة جانبنا .. ويظنّ كلٌ منهما أن مكان
الآخر أفضل من مكانه .. وحين يوقِنان أنه لا مجال لتبديل الأماكن يُدير أحدهما ظهره
للآخر , ولا يصبح لهما علاقة بما يحدث بينهما. هذا ما يحدث داخلي أنا."
مرّت لحظات من الصّمت قبل أن ينطق عماد
وقد ألصقه البرد بالكرسيّ كاملاً :
" هاجر أخي إلى أعالي الجبال , والآخر
بقي مختبئاً خلف مكتبته مهدداً كل من يقترب منه بالرجم , جلست وحيداً ربما لأيام
طويلة .. مثل من يبقى في الريف والجميع رحل للمدينة , حفرت لأقدامي في الأرض كي لا
ترعبني أعراض الجدري , وصرتُ مثل كرسيّ لا يستطيع الهرب . رغم هذا كله كان عقلي
يستمع لصوت واحد , صوتي فقط ! تأتي كل حين دوّامة تبعثر كل شيء , لكني كنت ممسكًا
نفسي .. قد أكون جافًا , صريحًا , وقحًا , لكن ما زلت ممسكًا نفسي , وأملك منظارًا
واحدًا للحياة "
وقف عماد وهو يتحدث وبدأ يحرّك يده
بطريقة توافق كلماته وأكمل :
***
"
لا أعرف ولكن تلك القصة عن أخويك والوِحدة التي عانيت منها تشبهني جدًا .. "
قاطعه عماد ساخرًا على الفور :
" عدا أنكَ لا تستطيع الابتسام حين
تريد ذلك , وقد تغضب بدلاً عنها ! أنزل اللثام وأرني كيف يحدث هذا .. "
" بالطبع لا , تريد شيئًا لتهزأ منه
فقط .. "
" حقًا أنا أود الرؤية يا وليد .. "
واقترب عماد حتى أصبح بين قدميّ وليد
التي افترشت الأرض , وأصَرّ عليه أن يُنزل اللثام ليتفحّص ملامحه وهيَ لا تطيع
إحساسه ! وعندما شاهد ذلك شعر بالخوف قليلاً .. وتراجع للوراء كمن رأى معجزة ,
ربما هي المرة الأولى التي يرى فيها مثل ذلك .. شيء يُشعره بالطرافة بداية الأمر
لكنه مخيفٌ في النهاية .. صوت وليد وهو يضحك , وفمه نصف قوسٍ حزين .. تلك العلاقة
الهشّة بين الداخل والخارج جعلت عماد يرجع إلى كرسيّه وهو يضحك خوفًا !
أطرق وليد رأسه تاركاً لثامه على كتفهِ
متدليًّا كالأفعى وصوته قد تبلل وهو يتحدث :
" أنتَ لم تجرّب ذلك الشعور حين تقترب
من أحد الأطفال , بيدك الحلوى .. وتعتقد في داخلك أنك تبتسم له وتدعوه للاقتراب ,
لكنك تدرك غير ذلك حين ترى وجه الطفل قد تحوّل لنهرٍ رميتَ به حجرًا وقت نومه !
تدرك حينها أنك لم تكن تبتسم على الإطلاق .. هذا يجعلني أحيانا أستوقف المارّة
لأسألهم إن كان ما يرونه في وجهي يطابق قولي , ولكنهم لا يجيبون أبدًا , رغم ذلك
أستطيع قراءة الإجابة على ملامحهم , إنهم كالمرآة تعكس ملامحي ! "
أشاح عماد بوجهه للجهة الأخرى ليخفي
عينه التي تلوّنت بالشفق وقال بصوت خافت :
" ربما لا تكمن المشكلة في داخلك "
" لا تمارس دور المنقذ معي .. "
" صِدقًا , قد تكون المشكلة في هذا
المجتمع الذي امتلأ بالخداع والكذب .. ودفعك لمعايشة هذا الواقع السيئ حتى وصلت إلى
هذه المرحلة من الرفض والقبول في آن واحد ! "
لم ينطق وليد , وتابع عماد بحرارة أكثر
:
***
نفرَ طيرٌ صغير كان نائمًا أعلى الباب
الحديديّ حينما أغلقه وليد ومشى بجوار عماد في الزقاق الضيّق , لم يكن الفجر بعيدًا
وقتها .. فبعدها بلحظات هبط الأذان يطمئن أنفاس الحيّ ويجوب أروقتها كرائحة العطر
حين تنزع غطاءه . يقود هذا الطريق الضيّق إلى مسجد في آخره بُنيَ قديمًا , بدأت
خطواتهم تنحدر قليلاً وصوت الماء المتسرّب على جانبيه يرافقهم منذ خروجهم . استقام
الطريق أخيرًا ليظهر المسجد في نهايتهِ مثلَ شيخٍ تبعثُ السكينةَ رؤيته , اقتربا
منه أكثر وعماد يتحدث :
" عندما يكون محيطك مليئا بالشرور ,
يجب أن تجد نقطة بيضاء خالية من هذا كله .. ها هيَ أمامنا , هذه القبّة أعلى المسجد
مليئة بالكلمات الصادقة التي يصعب تزييفها , والأرواح تحتها لها وزنٌ واحد , وقالبٌ
واحد .. لن تضطرّ لإبقائهم قربكَ , سوف تجدهم كذلك "
لم يعلّق وليد وتابع المشي وعينه
معلّقة على المئذنة التي خيّل له أنها تمتدّ إلى الأعلى ولا تنتهي أبدًا , شعر وليد
أن خطواته تقوده .. أما إدراكه فقد كان مستسلمًا لروحانية المكان , بعد بضع لحظات
كان دخولهم إلى المسجد متزامنًا مع إقامة الصلاة .
جلسا في آخر المسجد بعد تمام الصلاة ,
وعماد يجول بعينيه في الحاضرين ويتحدث :
" الجميع هنا يعرفون بعضهم بمقدار
مجيئهم وصدقهم , يبقى العابثون خارج هذا المكان طالما أنه يحدّ من عبثهم "
التفت إلى وليد وتابع متبسّماً :
" رأيتكَ وأنت تصلّي , كنت تختلف عن
ذلك المهرّج الغارق في ظلام الغرفة ! "
"حقًا ؟ .. أشعر أنّي قطعة نقدٍ ,
بوجهين متشابهين .. "
قاطعهما رجلٌ أتى من الصف الأول كان
يهمّ بالخروج لكنه غيّر اتجاهه وسلّم على وليد وجلس إلى جانبه :
" عفوًا , لا أريد إزعاجك لكن دائما
يراودني سؤال , أودك أن أسألك إياه .. "
نظر وليد إلي عيني الرجل قليلاً وقال :
" تفضل .. "
" هل تعمل ؟ لديك وظيفة أو شيء آخر ؟
"
" أنا ؟ في الحقيقة لا أعمل منذ أكثر
من سنة .. لماذا ؟ "
" غريب ! لا أشاهدك هنا إلا في صلاة
الفجر فقط ! وتتحدث بعدها إلى نفسك دوماً .. وأتساءل إن كانت لديك مشكلة ما , ربما
أستطيع مساعدتك .. "
نظر وليد إلى عماد فلم يجده بجواره !
تحسس مكانه للحظة ثم أعاد بصره المرتجف إلى الرجل مرة أخرى , ظلّ وجهه سارحًا
وكأنّ عينه تنتقل في لوحة لا ينتهي إدهاشها .. عاد إلى مخيّلته ذلك الرجل الذي كان
يود مساعدته خارج المقهى , فأراد أن يسأل هذا أيضا عمّا إذا كان ما يراه يبدو
كالابتسامِ فعلاً .
طالَ الصمت بينهما إلى أن شعر الرجل
بالإحراج ثم أراد أن يذهب , لكنّ وليدًا أمسكه بيده .. وابتسم الرجل وهو يعود إلى
مكانه ويقول بلطف شديد : " ماذا ؟ "
لم يقدر وليد أن يسأله عن شيء , فقد
انعقد لسانه وهو يتأمل وجه الرجل المتبسّم .. تأمله طويلاً ثم قال وهو يشدّ على يده
بحرارة : " شكرًا , لقد ساعدتني ! " .