عَلَمُ الشَّهيد

حسين حسن السقاف

[email protected]

 اسمي (سَالم) بيدَ أن أطفال حيّنا ينادونني ب(ابن الشَهيد ) ، منذ إن وعيت نفسي لم يكن لي أبٌ مثل بقية الصبية ، كل ما أعرفه عن أبي هي تلك الصورة التي تتصدر مجلسنا ومكتبته الصغيرة التي تحوي كتبه ومذكراته وفلسفته وطموحاته الوطنية.

 كانت وفاة أبي سبباً في إدخال أمي أزمة نفسية حادة ، أحالت حياتها جحيماً ، لازمتها بقية عمرها الذي لم يبلغ الثلاثين عاماً ، خالتي هي التي تعتني بأمي وتعتني بي أيضاً عندما كنت صغيراً.

 توفى أبي في السجن على ذمة قضية توزيع منشورات تحريضية ضد الاستعمار ، لم يكن أبي ينتمي إلى الحزب الذي سُلّم السلطة من الإنجليز.

 خالتي شابة صغيرة وجميلة ممتلئة الجسم ، لذلك فهي تبدو أكثر نضوجاً وشباباً رُغم صُغر سنها ، حتى أنه تقدم إليها عددٌ من الخُطّاب، إلا أنها تشترط عليهم استمرار قيامها برعايتي مع أمي بعد الزواج ، وهو ما لم يوافق عليه أحدٌ منهم .. كنت أنا وخالتي وأمي كثيراً ما نأتدم الجوع ونلتحف السموم ، والزمهرير ، ونفترش أرضية المنزل المتعرجة العارية إلا من حصيرة مصنوعة من سعف النخيل توسمُ أجسادنا كما تُوسم الإبل.

 كان الناس وقتها فرحين بالثورة عند قيامها ، حتى أن الأطفال يجمعون قطعاً من القماش الأحمر والأبيض والأسود وربما ألوان أخرى ليخيطوا منها أعلاماً يربطونها بعصي من جريد النخل وينطلقون بها عدواً ، لترفرف قلوبهم برفرفتها وهم يجوبون الأزقة والحواري ، وعندما يهجعون يضعونها على أسطح منازلهم ، لتكتحل بها أعينهم في صباح اليوم التالي .. تمنيت أن يكون لي عَلَم مثلهم ، ولكنني لا أمتلك القماش اللازم لذلك ، كان الصبيةُ يتباهون بكبر حجم أعلامهم وبجِدَّة قماشها ومطابقة ألوانها لألوان العَلَم الرسمي.

 كنا نعيش على ما يجود به أهل الخير، غير أن ذلك لا يكفينا ، مما يضطر خالتي إلى امتهان نقش الحناء للنسوة في الأفراح والأعياد، وكنت أفرح بصحبة خالتي إلى هذه البيوت لأشاهد فيها من الألعاب ما يُشبع فضولي.

 - كم هي جميلة يديك يا خالة؟ .. ارفعيها إلى الأعلى.

- ماذا أعجبك في يديّ ؟.

- الحناء.. جعلت أصابعك حمراء .. وكفاك هذان البيضاوان وكُمّ عباءتك الأسود، كل ذلك يشكل عَلَماً جميلاً .. ارفعي يديك إلى الأعلى لتنظريه !.

 - هل تريد عَلَماً مثل الصبية ؟.

 - لا .. لا أريد ذلك .. يداك أجمل من العَلَم.

 اقتطعت خالتي من ستارة نافذتنا قطعة من القماش الأبيض الذي لوّحته الشمس ليصير ضاربًا إلى الصفرة ، ثم اقتطعت من قميص صلاتها القاني قطعة أخري وأخذت من عباءتها قطعة ثالثة .. بعد أن خاطتهنّ وضعت بعض جمرات الفحم في (المكواة ) ، وشرعت في كي العَلَم .. كنت أنظر إليها وكُلي زهواً بميلاد علَمي الذي حَلِمتُ به كثيراً .. أخذتُه وذهبتُ به لأريه أمي المعتلة ، أخذته أمي جعلت تقبله وهي تجُهش بالبكاء وظلت كذلك ، برغم أنني لا ادري لماذا تبكي أمي ، إلا أن بكاءها هيّجني لأبكي مثلها .. سلّمتني العَلَم ولكن بعد أن ابتل من دموعها.

 عادت خالتي من الخارج وفي يدها عصا اقتطعتها من جريد النخل ، فوجدتني أبكي ، ضمتني إليها ليغرق وجهي في صدرها ، ثم أمسكت برأسي كما تُمسك ثمرة جوز الهند عندما يُشرب ماؤها ، وجعلت تفرك وجنتيَ بإبهاميها الحمراوين لتمسح بقايا دموعي .. حانت مني التفاتة إلى أمي التي كانت ترنو إليَّ ، لأجد أن أساريرها قد تهللت ، ولتنفرج شفتاها عن ابتسامة خفيفة .. قمت إليها وطبعتُ قبلةً على جبينها الناصع ، فضمتني إليها وجعلت تقبلني ولم تترك لي رؤية وجهها ولكنني أحسست بدموعها الساخنة تنهمر لتصل إلى عاتقي.

 أخذت خالتي مني العَلَم وحَشت العصا في حاشيته الجانبية وهي تقول :

- إن قالَ لكَ أحد الصبية عَلَمُك صغير فقل له إنه (عَلَم الشَهيد).

 كان العَلَم يمثل بالنسبة لي دم أبي القاني وحزن أمي الحالك وبينهما قلب خالتي الناصع.

 كان الولد إسماعيل جارنا يمتلك عَلَماً كبير الحجم ( من أعلام الدَولة) مصنوع من الحرير الانجليزي ،ورغم ذلك فهو يغيِرُ من عَلَمي ويغيرُ من اسمه الذي أطلقته عليه خالتي ، لذلك أخذ يضرب بعَلَمه الكبير عَلَمي ليمزقه وهو يشتمني ويقذفني بألفاظ سياسية لست افهمها ولم تفهمها حتى خالتي عند ما أخبرتها بها

 لم يتأثر عَلَمي بذلك ، على عكس عَلَمه الذي انكسر وتمزق في حينه ، مما زاد غضبه فعاد إلى منزله بعد أن ضحك عليه الصبية ، لم أعد إلى منزلي بعد إن خرجت منه وبعد إن انتصر عَلَمي .. ظللت منتشياً ، أجول لأُري الجميع عَلَمي ،حتى أنني بَعدتُ في أطراف الحي كنت أتنقل في الدروب الزراعية فإذا بسيارة ( لاندروفر ) تلاحقني ، كان يقودها شخص غريب أحمر ويضع على رأسه قبعة ، لا أعرفه .. وبدا إسماعيل إلى جانبه يصوِّب سبابته نحوي ، كانت السيارة تريد أن تدهسني ، غير أنني أسرعتُ في عَدْوِي لأدخل من منفذ ماء السيل إلى سور إحدى المزارع ، لأختفي خلف سنابل الذرة . لم أخبر خالتي بذلك عند عودتي إلى المنزل.

 في اليوم التالي خرجتُ مع عَلَمي وعدتُ إلى منزلي نحو الثانية بعد الظهر بصحبة أحد المزارعين الذي كان يعينني على حمل يدي التي قام بتجبيرها .. كان ذلك اليوم هو يوم وفاة أمي .. ألزمتني خالتي بعدم مبارحة المنزل أو حتى الإطلالة من النافذة ، بيد أنني عندما تذهب خالتي من الغرفة أتسلل إلى النافذة لألوّح بعَلَمي في الفضاء في حركة نصف دائرية بما يشبه حركة مسطرة مساح المطر في السيارات كنت أغني : عَلَم الشَهيد... عَلَم الشَهيد ...( ترم ..تيرم ).

 صَعُبَ حالي على النسوة اللواتي وفدنَ لتعزيتنا ، لذلك منحنني مبلغاً من المال أعطيته لخالتي.

 بعد إن انقضت أيام العَزاء ،حزمت خالتي متاعنا واقتادتني ليلاً لنتسلل إلى بلد مجاور ، كان ذلك بتنسيق مع أحد أصدقاء المرحوم والدي.

 وجَدنا في البلد الجديد آمننا وكرامتنا التي لم نجدها في موطنا الأصلي !!.

 كل ما طلبوه منا أهل البلد الجديد هو أن لا نُدخِل العَلَم إلى بلدهم !!.