حجرة باردة بلا نوافذ

محمد صباح الحواصلي

حجرة باردة بلا نوافذ

محمد صباح الحواصلي

كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة

[email protected]

 الحجرة, باردة, بلا نوافذ, مستطيلة, ربما متران بثلاثة أمتار, فيها مغسلة على الجدار الآخر المقابل للجدار المثبت فيه أربعة برادات ستانلس, اثنان سفليان, والآخران فوقهما. الحجرة فارغة, لأن حجرة مثلها ليس من المفترض أن يكون فيها كرسي أو طاولة, أو أي أثاث, ولكن فيها سلة نفايات وسطل بلاستيكي, أصفر باهت, بدا لا لزوم له, وزجاجات متوسطة الحجم مصفوفة على الرف الأول فيها أشياء تثير التساؤل والشك, ولا تثير الفضول في التحديق, وقد لصق على كل واحد منها رقعة ورقية مكتوب عليها كلمات بخط غير مقروء, وثلاث علب قفازات مطاطية طبية مثبتة بجانب بعضها على الحائط, ورف عليه صناديق كرتونية لشركة "ماكيسون" الطبية وعلبة فيها أكياس حمراء للنفايات الطبية. منذ قليل دخلا الحجرة. ارتديا القفازات الطبية, هو القياس الكبير, وهي الوسط. تلفتتْ حولها, قالت "لا يوجد شيء أضع عليه الأدوات.."

نظرا إلى الرف. أنزل لها صندوقا من عليه, ووضعتْ فوقه طقم الأدوات. أما هو فقد قلبَ السطل البلاستيكي الأصفر الباهت الذي بدا له لا لزوم له وجلس عليه. أخرج من جيب سترته "الفلد"  كتابا وثنى ركبته وسند عليها ذراعه وبسط ساقه الأخرى وجعل يقرأ.

سألته: "مرتاح؟"

"ليس هناك أفضل من السطل أجلس عليه.. أخبريني إذا احتجتِ لمساعدتي."

"ماذا تقرأ؟"

"(الحس التراجيدي للحياة) لميغيل دي أونامونو.."

"فلسفة يعني.."

فتحت حقيبة العمل المعدنية وأخرجت حنجوري مادة "الأبتسول" ووضعتهما على الصندوق.

وقالت ثانية:

"تحب الفلسفة؟"

"الفلسفة علمتني كيف أتعامل مع الحياة."

قالت وهي ترتدي المعطف الورقي الواقي الفاتح اللون:

"حاولت أن اقرأ فلسفة, لكنني لم استسغها.. تعبت منها لأنها تسأل أكثر مما تجيب.."

اقتربتْ من الجدار المثبت فيه البرادات الستانلس.. قرأت الاسم من الملف الأخضر الذي كان معها, ثم بحثت عن الاسم على أبواب البرادات.

"ها هو.. هذا الذي تحت.. (جان دو).. هل لكَ أن تساعدني بسحبه."

انثنى وفتح باب البراد إلى أقصاه, باغتتهما برودة, ودوي خفيف منبعث من داخل البراد, ورائحة متوقعة ما تزال مقبولة. أمسك الطرف الحديدي للمسطح المعدني وسحبه بجهدٍ بكلتي يديه حتى نهايته, وصار واضحا من الكيس البلاستيكي الأبيض ذي السحاب على طوله, أن الرأس عند نهاية المسطح المعدني من الطرف الداخلي. عاد وجلس على السطل, ثنى ركبته وأسند عليها ذراعه الحامل للكتاب, وبسط ساقه الأخرى وقبل أن يعود إلى قراءته قال:

"لو أجابت الفلسفة على التساؤلات لما كانت فلسفة."

سحبتْ السحاب من مكان الرأس إلى نهايته عند القدمين. أبعدت ردفتي الكيس البلاستيكي فانكشفَ الجسدُ برمته, عاريا, مأساويا بشكل فاضح, رجل ربما في الثلاثين من عمره, على وجهه ألم وأمارة استفهام بحجم العمر الذي عاشه, وبفمه أنبوب, وبقضيبه أنبوب, وجعلتْ تعاين الجسد.

"أكتب من فضلك؟"

التقط الملف الأخضر من على العلبة ونظر إليها وهي تفحص الجسد وتعاينه.

"وشمٌ على الذراع الأيمن.."

وتعاين مكاناً آخر:

"أثرٌ لجراحة قديمة عند الحالب.. انتفاخ في البطن.."

انتهت من فحصها للجسد, وعاد يقرأ في كتابه.. . كسر صمت الحجرة جريان ماء الحنفية وهي تغدق ماء فاترا, كانت تدعك يديها وأظافرها وذراعيها بإمعان بقطعة الإسفنج المشبعة بالصابون. كان الجسد بينهما. هو قريب من الرأس, من الجهة اليمنى. وكانت هي عند الطرف الآخر للرأس, قريبة من الصندوق ومن سلة النفايات الطبية والمغسلة. وسمعها تقول:

"هذه أول مرة أجري استئصالا للقرنية وأنا راكعة على الأرض.. ثم إنه من المفروض أن أكون خلف الرأس, في الوسط, وليس إلى جانبيه, لكي أتمكن من ضبطه براحتي وأشرف على العينين."

اكتفى بأن نظر إليها وعاد إلى كتابه. كانت البرودة تأتي من البراد المفتوح, وكان الوقت يمضي بالنسبة لهما, ساكناً بالنسبة للجسد, أما الزمن فقد كان مستمرا بالجريان وبسرعة واحدة بالنسبة لثلاثتهم.

"أمقت استئصال القرنية في هذا المشفى." قالت ثم تابعت, "في غيرها المكان أرحب, ودافئ, وفيه حامل يُمَدُ عليه الجسد, وكثير من الأحيان تجد راديو ليسلي ويؤنس ولاسيما عندما تكون المهمة عند منتصف الليل."

رفع نظره إلى رأسها المدنو بإمعان فوق الرأس, ثم نظر إلى الرأس وقد امتلأ محجر العين بالدم الفاسد. راقبها وهي تمسحه عدة مرات بقطع الشاش وما يزال ينزف حتى استسلم النزف وسكن.. وتمكنت من مشهد العين المفتوحة إلى أقصاها بملقطين, وتابعت قص القرنية.. أمسكتها بملقط وحملتها بهدوء ودربة إلى الحنجور المليء بمادة الأبتسول وأسقطت القرنية داخله.

سألها: "كم بقي لك من الوقت؟"

"لقد انتهيت لتوي من العين الثانية.."

ثم تابعت:

"بنفسي فنجان من القهوة.."

"أين في مثل هذا الوقت؟"

"سنعود لمقهى ستاربكس في الحي الجامعي.. يفتح أربع وعشرين ساعة."

"إلى متى أنتِ مناوبة اليوم؟"

"حتى السادسة صباحا."

"معنا وقت إذن"

"معنا وقت طويل.. طويل.."

تأمل وجهها الباسم وهي تخلع المعطف الورقي الواقي الفاتح اللون, تأمل سعادة الانتهاء من عمل شيء بنجاح, تأمل الجسد وقد استؤصلت منه نافذة الروح ثم وهو يعود إلى البرزخ البارد قبل أن تحتويه الأرض, تأمل عبث الخواطر التي بدأت تنثال في مخيلته كشلال هادر , ثم في الخارج تأمل غبش الفجر وهو يحاول جاهدا أن يقدم نفسه بأجمل حُلةٍ ويضفي على نفسه ألف معنى... تأمل في اللأشيء الذي كان يتورم في داخله, وقال لها:

"يجب أن نسرع ونتناول قهوتنا قبل أن ينقضي الوقت."