صفقة العمر
صفقة العمر
ثناء محمد كامل أبو صالح
تطلعت إلى الساعة للمرة العاشرة .. أو لعلها المرة المئة, عقرب الدقائق ما زال يتحرك ببطء شديد, وعقرب الساعات جاوز الثانية بعد منتصف الليل .
لكن الأرق ما زال يلازمها, يضعف تفكيرها.. يقتات من أعصابها, ولا ينتهي إلا بعودته سالماً
تأملت مكانه الخالي من الفراش, تنهدت واستدارت إلى الجهة الأخرى وغصة كاوية تحرق أضلعها, خاطبتها نفسها : لا فائدة.. كل ما تأملينه مستحيل .. فلم الاستمرار ؟؟
تخيلت حالها بعيدة عنه, وقد تخلصت من قيود الانتظار القاتل, وتحررت من القلق المميت, حينها ستكون أيامها ولياليها ملكاً خالصاً لها, بكل دقائقها وساعاتها, وستحيى حرة من القلق ومن قيود الزمن الصدئة .
ارتفع صوت الصغير من الغرفة المجاورة يناديها .. ثوانٍ وصارت قربه وبيدها كوب الماء الذي طلبه, همس لها بعد أن ارتوى بلهجة استعطاف : ماما .. نامي جنبي ..
ابتسمت له في الظلام وقبلته قائلة : سريرك صغير ولا يتسع لنا معاً
تعلق بعنقها قائلاً : إذن أنام أنا إلى جانبك
داعبته بقولها : وبابا أين ينام ؟
أجاب باحتجاج : وأين بابا ؟؟ .. إذا جاء ينام في سريري
تسابقت دموعها محاولة الفرار من زاوية العين, فاحتضنته لئلا يراها, وحملته إلى فراشها.. لحظات وغرق الصغير في سبات عميق, وابتسامة حلوة تغمر الوجه الطفولي المشرق بالبراءة والطمأنينة .
داعبت شعره بأصابعها وهي تفكر .. كيف استطاع أبوه أن يغيب عنه كل هذه الأيام ؟؟ تنهدت وتركت دمعها يسيل خطوطاً متلاحقة عله يطفئ شيئاً من حرقة القلب الكاوية .
ست سنوات مرت .. لا تذكر أنه قضى خلالها أسبوعاً واحداً دون سفر..حتى عندما أطل الصغير على الدنيا, لم يحضر ولادته.. إذ كان مسافراً ..
كانت تأمل أن يغير قدوم الصغير شيئاً من عاداته, أن يربطه إلى بيته بروابط الحب والمسؤولية, لكن شيئاً من هذا لم يحدث..وبدا لها أن حلم التجارة والسفر أقوى بكثير من مجرد بيت وطفل, ومع ذلك .. استمرت في حياتها معه, ليس استسلاماً للأمر الواقع, بل أملاً في التغيير .
ومرت السنوات, وكبر الصغير وأمه كل عالمه, أما ( البابا ) فهو يحبه كما يحبه الزائر اللطيف الذي يداعبه لثوانٍ أو دقائق, ثم ينصرف بعدها إلى هاتفه أو مواعيد عمله أو أسفاره التي تمتد شهراً أو أكثر, والتي يعود منها فجأة كما سافر فجأة .
تململت في السرير وهي تردد أذكارها وأدعيتها في محاولة أخيرة للنوم, بعد أن عقدت العزم على مواجهته هذه المرة, ووضع حد لحياة القلق والانتظار المرهقة .
وما لبث النوم أن استولى عليها, فغرقت أخيراً في لجته المضطربة .
حينما عاد بعد طول غياب, تجرأت وواجهته بكل معاناتها.. حكت له كل مخاوفها وأرقها وعذابها الطويل .. واستمع إليها وقد رفع حاجبيه دهشة !!
فها هو ذا الطائر المستكين يصفق بجناحيه في محاولة للتمرد على واقعه والخلاص من أسره, وهو الذي كان يظن أن ريشه لن ينبت, وأنه لن يحاول الطيران أبداً .
وتساءل بلهجة ساخرة : تعانين .. وأنت في بيتك وبلدك وبين أهلك ؟؟ فماذا أقول أنا ؟؟ وكل يوم لي بلد جديد ؟؟
اندفعت تجيبه بحرقة : وما الذي يرغمك على مثل هذه الحياة ؟؟
أجاب مستهجناً : أنت وولدك, أريد تأمين حياة مستقرة لكما, ولا بأس بشيء من الانتظار والصبر في سبيل ذلك ..
هتفت برجاء : يا ابن الحلال .. ابنك لا يكاد يعرفك, وقد يضيع العمر في الانتظار..
أشاح بوجهه قائلاً : هكذا أنت دائماً .. لا أسمع منك سوى التشاؤم..
أدارت وجهه إليها وهتفت : ولكنها الحقيقة..يا ابن الحلال ست سنوات مرت.. ماذا جنينا خلالها ؟؟ لا شيء سوى الهم والقلق والألم .. قل لي ؟
اربدّ وجهه وقال : لا بد أن أحقق يوماً صفقة العمر.. وبعدها سأرتاح
تساءلت بخوف : حتى .. لو خسرتني ؟
لبرهة خاطفة.. ظنت أنها لمحت ما يشبه الذعر في عينيه, لكنه عبس وردد بثقة :
إذا ملكتُ المال .. لن أخسرك .
وأدركت لحظتها أنه لم يفهمها يوماً قط..
طوال السنوات التي عاشاها معاً, لم يفهم أن بيتاً هادئاً تسوده الرحمة وتحتضنه المودة هو كل ما تريد.. إذن .. ما جدوى البقاء وما من ثمة أمل – ولو بصيص أمل – في أن تنتهي حياة القلق وعذاب الانتظار ؟
وفي الصباح رحلت وبيدها صغيرها الذي لم يسألها قط : أين بابا ؟.
*عضو رابطة الأدب الإسلامي