من صور معاناة زوجة فلسطينية

من صور معاناة زوجة فلسطينية

قصة حقيقية (بعيدة عن المبالغة والتضخيم)

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

حضنت أطفالها الخمسة ، أكبرهم اثني عشر عاما ، وأصغرهم رضيعا في أشهره الأولى ، غاب عنها زوجها ؛ ليدفع ضريبة الحرية في سجون الاحتلال الإسرائيلية ، ولسنوات طويلة .

غاب معيل الأسرة الوحيد ؛ لتفقد بغيابه كل موارد الرزق من بعده ، وليجوع الأطفال الذين لم يجدوا من يسد رمقهم ، فلا تنظيم قد أوفى ، ولا عائلة قد حضنت ،ولا جهة قد مدت يد العون .

اسودت الدنيا أمام أعينها ، وتحول نهارها إلى ليل ، وليلها إلى نهار ، تزفر زفرات الأنين ، مرسوم على صفحة وجهها كل معاني الاكتئاب والألم ، والحزن والحسرة ، تتنفس من ثقب إبرة ، وآثار خطين من الدموع على وجنتيها ، تنعي وترثي غياب الوطن وأهله، وغياب الإحساس وأهله , وغياب الخير وأهله ، وغياب الكرامة وأهلها ، تقرأ في محياها كل سطور المأساة .... إنها زوجة المناضل!! .

فهل تخدم أطفالها وترضع رضيعها ؟ ، أم تخرج لتبيع وتشتري من أجل توفير الكسرات من الخبز لأطفالها ؟ .... نعم هذا هو الجزاء الوحيد لزوجها الذي قاوم الاحتلال ، من أجل أن يجوع أطفاله وتشقى زوجته !!.

استطاعت أن تجمع قليلا من النقود من هنا وهناك ، واشترت من السوق بعض الحلوى ، ووقفت بها على جانب الطريق فوق الرصيف ، في شارع عمر المختار وهو أكبر شوارع غزة ، لعلها توفر لأطفالها ثمن الدواء والطعام ... نعم لأنها زوجة مناضل !!.

أصابتها حالة اكتئاب حادة ، وهي المرأة الطيبة العفيفة الطاهرة ، والتي فعل الزمان بها أفاعيله .

كانت تتناوب مع ابنها الطفل الأكبر الوقوف على البسطة ، تارة تقف هي ، وتارة يقف طفلها ؛ لتذهب مسرعة إلى بيتها ترضع وليدها من لبنها ، أو تجهز طعاما لأطفالها ، أو تقوم بواجبات بيتها ، ثم تعود لترى ابنها وقد سُرقت بضاعته ، أو نائما على بسطته ، أو لاهيا باللعب بعيدا عنها .

سمعت منها تمتمة تحدث نفسها :

يا رب ...... يارب

تموت الأسد في الغابات جوعا        ولحم الضأن يرمى للكلاب

كانت تخرج لزيارة زوجها في سجن نفحة الصحراوي ، قبل أذان الفجر ، هذا هو موعد سير الحافلة ، لتعود قرب منتصف الليل وقد فرض اليهود منع التجوال ، أطفالها بين ذراعيها نائمين ، وقد قطعت الشاحنة بهم طريقا صحراويا طويلا  ذهابا وإيابا ومكثت الساعات الطوال على بوابات سجن نفحة ، شأنها شأن باقي الأسر الفلسطينية المعذبة .

ما أقساك أيها الزمن .... إنها زوجة المناضل .

وفي الرابعة ليلا قرب الفجر ، كانت تخرج وتسحب بضاعتها على عربتها الخاصة التي صنعتها عند الحداد ، وهي التي ما عرفت للشقاء لونا في حياتها ، وفي الطريق لحقت بها مجموعة من الكلاب ، والدنيا ظلام حالك ، والليل ساكن والناس نيام ، صرخت بأعلى صوتها ، وفرّت مزعورة باكية وقد تركت عربة بضاعتها من خلفها ، ومن بعيد سمعها أحد المجاهدين المطاردين لليهود ، من حركة المقاومة الإسلامية حماس ، الشهيد كمال كحيل رحمه الله ، أقبل إليها مسرعا معرضا حياته لخطر الموت أو الاعتقال وبيده سلاحه .

ردَّ عنها الكلاب ، وهدَّأ من روعها ، وخاطبها بكلمات أوقعت في قلبها الطمأنينة والهدوء ، ثم بدأ يسحب عربتها بنفسه حيث المكان الذي تحط به كل يوم .

 إنها المرأة الضعيفة المسكينة العاجزة ..... زوجة المناضل !!! .

استمرت على هذا الحال أكثر من  خمس سنوات ، تنتزع طعام أطفالها من بين أنياب زمانها ، ذنبها الوحيد أنها زوجة مناضل . كانت دائما تردد :

يا رب هل يرضيك هذا الظمأ والماء ينساب جداولا

كانت تقرع أبواب  المؤسسات الخرية ، تشعر وكأنها تتسول ، عزّت عليها نفسها وهي بين الفينة والأخرى تتردد هنا وهناك ، فآثرت عضّ الفقر على عضّ المذلة ، وكثيرا ما كانت تتنكر لها المؤسسات والتنظيمات والأفراد وأصحاب القلوب السوداء التي غطّت عين الشمس في سماء الظهيرة  ، إنها زوجة مناضل!! .

كان صغارها يمرضون كثيرا ، تشعر أنها في حيرة من أمرها ، فهل تترك بسطتها وتذهب لعلاجهم ؟ .  فمن يطعمها إذن ؟ ومن يطعم أطفالها ؟ وهي التي طالما تركتهم في البيت لوحدهم ، منذ الصباح وحتى غروب الشمس .

إنها مرارة الحياة وقسوتها ..... نعم لأنها زوجة مناضل !!.

وفي أثناء النهار ، وقد عادت لتوها من علاج أطفالها ، وبينما هي تُعد لهم طعاما ، جاء من يخبرها بأن طفلها الأكبر الذي تركته على البسطة ، وقع في أيدي الجنود الاسرائليين بحجة إلقاء الحجارة عليهم ، وأن المكان قد اشتعل نارا ، وأن جنود الاحتلال يطلقون النار ويضربون الناس ، ويركلون بأرجلهم بسطات البائعين فيقلبونها ويدوسون على البضائع .

ازدادت المرأة الصابرة حيرة فوق حيرتها ، وألما فوق آلامها ، وجرحا فوق جراحها ، مرتبكة لا تدري ماذا تفعل ، وهي امرأة لا حول بيدها ولا طَول .

فماذا تفعل يا تُرى ؟

 هل تجلس بجوار أطفالها المرضى ؟

 هل تتركهم وتنطلق مسرعة لتتفقد ابنها وبسطتها ؟

وماذا تستطيع أن تفعل إن كان ابنها وقع في أيدي الإسرائيليين ؟

أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهنها ، خرجت من بيتها تاركة رضيعها وأطفالها المرضى عند جارتها العجوز ،  تدعو ربها معتمدة عليه بقلبها المنكسر، والدموع تنهمر من عينيها .

هكذا تتراكم المصائب والهموم بعضها فوق بعض ، وعيون الخلائق من حولها مصابة بالرمد بل بالعمى .

الطفل الآن بقبضة الجنود ، والبسطة لا تدري ماذا صار بها ، انطلقت بسرعة إلى المجلس التشريعي حيث المكان الذي حجز الجنود طفلها فيه ، توسلت للضابط أن يطلق سراحه ، شارحة له ظرفها وسوء حالها ، ، تفهَّم الضابط معاناتها وجعلها توقِّع على وثيقة تتعهد بها على عدم تكرار ما فعله ابنها .

كانت تذهب بأطفالها المرضى إلى عيادة الطبيب الخاصة ، فالمستشفى لا تتوفر به العناية الكاملة ، طلبت من الطبيب المعالج أن يعالج طفليها بتذكرة كشف واحدة لكنه رفض وهو ملاك الرحمة (كما يقولون بشأن الأطباء) ، شرحت له ظرفها ودموعها في عينيها ، فلم تتحرك مشاعره ولم يتأثر قلبه ، وأصرَّ على أن تدفع ثمن الكشفين أو التذكرتين ، فاضطرت أن تدفع له كما طلب ..... نعم لأنها زوجة مناضل !!.

كانت تشعر المرأة وكأنها تعيش على كوكب آخر لا خلق ولا بشر فيه ،أو كأنها في كهف مظلم ، أو وسط صحراء قاحلة مقفرة ضاقت بها ، وأموال منظمة التحرير الفلسطينية تًستثمر في دول العالم لكي يُبنى بها فيما بعد ، الفيلاّت الفاخرة ، والأبراج العالية ، والكازينوهات الفارهة ، ولتمتلئ جيوب  القادة ، وتنتفخ كروشهم ، وهي لا تزال تزرع فقرا ، وتجني فقرا ، وتحصد فقرا ، ليعلو الفقر ويتراكم بعضه فوق بعض ، كأنه بحر لُجِّي عميق مظلم ، إذا أخرجْت يدك لم تكن تراها.

نعم إنها زوجة مناضل!!!