نشوى سعيد

نشوى سعيد

عصام أبو الدهب

[email protected]

في زاوية التلذذ .. جلست .. تستقطب ملامح الشغف ..

 في عيون الذين تتلون ابتساماتهم برغبات الضمائر المكنونة في دواخل القلوب..  بحثاً عن السكينة المُصرِّفة لوجع الكبت المتأصل في دروب العمر ..

خوفاً مترقباً لهواجس الزمن المقبل بكل أحلامه الموءودة في مهد التطلع إلى الحاضر المترسم لوحة..

خطوطها سوداء..

إطارها أسود..

رسمتها أيدي سوداوية..

تبصرها عيون يحيطها السواد من كل الجهات المفترقة في اللاتلاقي المتفلسف بأزمة الانبهار في كافة الاتجاهات..

هكذا جلست نشوى سعيد..

تستعيد ذكرى الأمس القريب الذي فجعها في أعز ما تملك فشعرت بالوحدة تسبح بها في بحر عميق لا تدري أين سينتهي مداه؟ ولا أين سوف ترسو بها خِفيات الأيام؟

تردد صوت قائد الطائرة يعلن مراسيم انطلاق الرحلة إلى هناك..هناك، مشيرا إلى الجميع بضرورة ربط الأحزمة وترك التدخين وإغلاق الهواتف النقالة.. استمعت بإصغاء شديد، ونفذت طلباته حرفا حرفا، رأت بجانبها من لا يكترث كثيراً بعبارات قائد الطائرة، حتى جاءته المضيفة ترغمه على أن يترك سيجارته، ويربط حزامه، استجاب مرغما متأففاً.. حملت تجاهه شعورا بالاستغراب المعبأ بالقلق والترقب..

على كل حال شغلها هذا الموقف عن رحلتها الداخلية التي استعادتها مرة أخرى عندما سمعت صوتاً لطالما أزعجها، ولكنها وللمرة الأولى في حياتها شعرت بمدى الارتياح لنغماته العِذاب الصادرة من الجثة الحية القابعة في الكرسي الملاصق لها.

أقبلت عليها المضيفة بابتسامة شعرت فيها سخرية لا تدري أين مصدرها تعرض عليها أن تحل حزامها وترجع ظهر كرسيها إلى الوراء كي تشعر بالراحة وحتى لا تمل طول الرحلة التي قد تستغرق ساعات قلائل، قبلت نصيحتها شاكرة لها حسن تعاونها..

ركنت نفسها إلى ظهر الكرسي الذي كان ملاصقا لنافذة الطائرة ففتحتها ورأت زجاجا سميكا ليس وراءه غير الظلام الدامس.. لحظات من عمر الزمن الجميل وأغلقته .. وألقت برأسها.. وغفت قليلا عن نفسها ثم استعادت رحلتها..

تغابت عن نفسها ووسوست لها الحكايا التي سمعتها من أقرب الناس وأبعدهم بالسؤال الذي لطالما نزعته من بين ثنايا تفكيرها، يا ترى ماذا سأُلاقي ...؟

لم تستطع أن تكمل مفردات السؤال، ومرت بجانبها المضيفة، فطلبت منها كوباً من الماء تزيل بها سؤالها الذي لم يعد له أي فائدة، فلبت باسمةً، وشكرتها، وتجرعت الماء، وشعرت بمزيد من العطش ولكنها استحت أن تطلب منها ثانية لاسيما وأن الطائرة مكتملة الشحن، وقالت لنفسها: لعل مضيفة أخرى تمر فأطلب منها.

رجعت مرة أخرى إلى كرسيها، ونظرت في ساعتها وغيرت توقيتها إلى توقيت المدينة الراحلة إليها، ووجدت أن الساعة لم تتغير عقاربها، أنه التوقيت ذاته الذي تركته هناك، ففرحت فرحاً شديداً أن هذه الساعات لم تحسب من عمرها.

ابتسمت لوداع أبيها الذي أهداها مصحفاً جميلاً علقته في صدرها، ولكنها خافت أن يسرق منها، فحفظته في حقيبتها، وتهللت أسارير وجهها عندما قال لها:

يا نشوى إن شاء تجي السنة الجيه، ويكون خطيبك جهز كل حاجة علشان الفرح اللي احنا منتظرين بقلنا سنين..

وابتسمت مرة أخرى وهي تستعيد ملامح وجهها الحيّ وخجلها من كلمات أبيها.

ونظرتها إلى محمود خطيبها الذي رافقها منذ طفولتها وحتى هذه اللحظات.

سكتت بينها الكلمات، وظلت هكذا..

تذكرت لفتتها الجميلة وهي تودعهم مشيرة إليهم بيدها الرقيقة، ضحكت عندما تذكرت أنها حاولت أن تشير إليهم بكلتا يديها ولكن الجموع الراحلة دفعتها إلى أن تلوح بيد .. بيد واحدة، وتدفع بالأخرى عربة الحقائب التي تسير أمامها.

خادعت نفسها وغرقت في بحر من النوم..

استيقظت علي صوت قائد الطائرة يعلن رحلة الوصول إلى المطار ذاته الذي تركته منذ عشر سنوات، فنظرت في ساعتها العتيقة، وتنبهت إلى اختلاف التوقيت، فأدارت عقارب الساعة تستعيد لحظات العمر الفائت، ترقرقت من عينيها قطعتان من اللؤلؤ المسحور بجمال شبابها الذي شعرت أنه ذاب بين أحضان الغربة.