البكوّش

البكوّش*

خالد ساحلي

[email protected]

ما دخلك أنت ؟ لست أكثر منا خبرة في الحياة حتى تلقي علينا خطبك وعضاتك.

كان عليه الاعتذار و الانصراف دون إحداث مزيدا من الخجل لنفسه ، أحس في داخله عالما كاملا جميلا يتحطم ، يهوي من أساسه ، كان عليه معرفة طرائق صنع الحوار و خلق الحيلة للولوج في عقليات المجتمع ، كم دافع عن الأفراد و أعتبرهم ضحية الأنظمة المتعاقبة ، اليوم يسمع شيئا يشبه الحلم ، لربما أخطأ حين جمع المجتمع بالحضارة ، لم تغب عنه سلوكيات الأفراد وما بلغته من وعي ، لكنه لا يرى ذلك يتجلى. يخطأ هو في خلق مفاهيمه الخاصة ، أحيانا كثيرة يعاتب نفسه يلتمس الأعذار لكل حكومات الشعوب ، حين يفسـّر التاريخ على هواه وينزل إسقاطاته على واقعه ، هل وعي ابن المقفع وتدخله فيما لا يعنيه جنا عليه هلاكه وحتفه ؟ لم يكن غير صوت الآخر . يخلط هو كثيرا في تفسيرات التاريخ ووقائعه ، كان عليه التنازل عن وحي الله ، ليجنح لسلامة نفسه و لا يقتفى أثر ابن المقفع  البطل ، يقنع نفسه أن الأديان جاءت لتحفظ له نفسه ، يجول أزقة المدينة  و يقطع وعدا مع رجل  يسكن بداخله يظهر له في اللحظات الحاسمة حين يرتجف صاحبه أو يضيع شيئا من هدوءه المعهود ، أو حين يخلط في تفسيرات التاريخ و تحليلات الراهن ، كان عليه فقط ليحيا سعيدا و لا يحفل به الناس أن يلجم فمه المنفتح على عوالم البلاء و الشقاء ، يعرف أنه تحت كل لسان يوجد شيطان. كان بمقدوره ربط فمه أو البحث عن قوة خارقة لغراء يلصق له شفتيه، فكر كثيرا في خياطة فمه ليستريح من تبعاته. يُشتم حتى يعتقد أنه تحوّل من إنسان مبجل إلى كلب حراسة تسكنه البراغيث و القمل الأبيض ، يطرد بألفاظ النتانة و البصاق  " لا تعفـّن فمك" تقال له في اليوم ألف مرة ومع هذا هو متأكد أنه  لم يقدم على التصريح بالفسق والكفر و السفاهة و الكلمات البذيئة التي حفظها الصبية كما الشباب من المواخير و الأندية الليلية المنتشرة كالفطر ، لم يكن ليضيف لنفسه عناءا جديدا خاصة و أنه حرم المأوى و العمل و لم يعد يتمتع إلا بحقوق جانبية لتفريغ غضبه في قداسة نصائحه المستمدة من الكتب المقدسة و أقوال الراسخين في العلم و المعرفة ، كم حفظ من المقاطع الباهرة لمعاني الحكمة ، ظن نفسه ارتقى في دروب الزهد و التصوف ، منح نفسه شرعية التبليغ و الدعوة لقيم الأديان و لفضيلة الحكماء و المصلحين ، أحيانا كثيرة ينتفض الرجل الذي في داخله ، يتقيأ بصعوبة كبيرة لأن فم صاحبه لا يكاد ينغلق وهذا يسبب دخول الحشرات بكل أنواعها لجوفه ، يحدث تورم اللسان أحيانا بفعل طحن الأسنان له حين ينزلق بين الفكين حين يخطأ وجهته في الكلام و يفكر الرأس في أمر الطعام ، والمدخول اليوم الذي لم يتدبر أمره بفعل تقاعسه عن تذكر نصيبه من الدنيا ، الرجل الذي بداخله يركبه ، يرفسه حين يذّكر في المجالس التي يحضرها أخبار القضاة ، و الجمعيات السياسية المعتمدة . يلزمه لتبرئة ساحته إيضاح فئة تاريخية من الأدباء لم تكن ثورية و لم تفكر بتاتا في قلب الأنظمة إنما مجرد مجتمعات صغيرة تبكي على الغواني في الأندلس ، أو تشجب الحروب القائمة بين الإخوة ، يجب عليه أن لا يتكلم عن الجدلية التاريخية المساعدة للفكر على نشاطه لإحداث التنافس داخل المجتمع لتتفرع عنه عدة مجتمعات و يحدث التطور. كان يفحم من الحضور  بكلمات السفه  و الكفر يتوجم وجهه فينسى الكلام . كم من مرة أقسم أن يقلع عن هذه الدودة التي تنخر عقله وتفسد عليه هدوء حياة الرجل الذي بداخله ، عادة أكتسبها يوم علـّقت على ظهره لافتة مزعجة لم يجرأ على التصريح أنه كان خانة سوداء في كلمات متقاطعة ، تشجع لقياس لسانه ليجده قد تعدى المترين يوم راح ينصح المجتمع بالقراءة لتفادي إنزلاقات الساسة ، الساسة مطمئنون لمن لا يعرف قراءة الإشارات و البرقيات السرية ، الساسة متفقون على ألسنة الشعوب .

ــ أغلق فمك وأعتبر و لو مرة واحدة .

ــ بذئ  الرأي أحتفظ بنصائحك و توجيهاتك لنفسك .

ــ عليك اللعنة

يحمل خيبة النفس و الكلمات الحارقة الخارقة و كأنه على مقلاة زيت يغلي، يتصبر حين يحتسب هذا في باب القضاء و القدر. وجد حلا آخر أكثر فعالية يجنبه التصادم المباشر ، فكرة نقل اللسان إلى  الورق بالكتابة و بعثها للجرائد للنشر ، تحمس بادئ الأمر لذلك لكن سرعان ما انطفأت شعلة أمله، تلقى عدة مراسلات يتأسف فيها رؤساء الأقسام ومديري التحرير عن نشر مادته لعدة اعتبارات سياسية و ظرفية ، بعض المحررين لم يردوا عليه حتى.. لا يتأسف عن الأوراق ومبلغ الطوابع و لا عن الوقت و الجهد، يتأسف كثيرا على شعار التحرر و نقل الخدمة.

كان عليه تغيير أسلوبه ، لم يجد أحسن من الأسواق راح يجمع المتسوقين في حلقات شارحا لهم أشياءا لا يعرفونها و لا يفهمونها ، اعتقدوه واحدا من الصيادلة الذين يقدمون وصفات  بأعشاب علاجية ميسورة الثمن ، لكنهم وجدوه مختلفا ، هم يحبون ذاك الذي يمدهم بأشياء لا ضرر منها ، كان عليه  معرفة أن هؤلاء السوقة مساكين مثله ، يبحثون فقط عن أمن أنفسهم وبطونهم ، يحبون فقط من يسرد لهم قصصا تاريخية تقديرا للجمال الذي فيهم ، وليعيد الثقة إليهم ، الثقة بحلول قريبة سحرية مستقبلية لأنهم يعيشون الأزمات ، هم لم يعهدوا مثله ، اعتبروه مدّاحا  أو مجنونا جديدا وفد عليهم، اتهموه في كل سوق قصدها بالدجل ، لصقت به الكنية صار يسمى بالدجّال،  لا يأسف لتعيير الناس له ،  الأطفال والصبية  صارت تطارده تضايقه ، لم يعد له مكان يذهب إليه ، الكل صار يتحاشاه هناك من رأى في الوقوف معه شبهة قد تحمله على المكروه ، المتطيرون منه يكثرون يوما بعد يوم ، لقد تحقق بعض ما قاله من سنوات عن أزمات و ارتفاع في الأسعار و تسريح  للعمال ، الفقر ينتشر والآفات تكاثرت ، صار هو فأل سيء عليهم ، تمنوا رحيله وموته و سجنه ، كان يعتقد أنه ما من فكرة إلا  وكان لها نصير لكنه وجد نفسه وحيدا بلا نصير ، وجد نفسه كعدد لا ينتمي لأي مجموعة ، رقم محايد ، أشترى مظلة صار يضعها على رأسه كما أشترى عصا يجعلها تدور في يده يشغل بها نفسه ، نزح للريف على عكس غيره ، أشترى شويهات ، صار راعي ودّع حياة المدينة ، فتح عالما جديدا على الطبيعة المتكلمة لكنه أختار الصمت ، أهالي الريف يسمونه البكـوّش  كانت هذه الكنية أحب إليه من اسمه.

              

هامش :* البكوش : اسم لفاقد النطق ــ الأبكم ــ .