الخوذةُ المثقوبة

الخوذةُ المثقوبة

نسرين طرابلسي

[email protected]

ترك العودَ جانباً وانتحى أمام التلفزيون منصتاً إلى نعيق غربان الحرب. كان قد فرغ للتو من لحن جديد. لكنه اضطر إلى دفنه بين صدغيه كما دفن من قبل الألحان الباقية. صدى صوته المبحوح ظل يهيم في أرجاء الغرفة الفقيرة حتى بعد أن أغمض عينيه ومدد الحلم على الوسادة وبدأ يداعبه حتى يهدأ وينام.

كانت بغدادُ غارقةً في ترقبٍ صامت، وبسطت نخلةُ الحيِّ سعفَها في ضوءِ القمر فتقاطعت ظلالها مع ظلال خشب النافذة، ورسمت على وجهِهِ شبكةَ ضياء خافت. بدا جميلا هذا العراقي الفتي، بوجهه الأسمر، المحدد بقسوة بعظام فكه الطويل، المنتهي بذقن ممهورة بطابع الحسن. بدا أنه هوى إلى النوم، لكن كل ذرة في بدنه كانت تنتفض وتتكاثر وتمتلئ بالحيرة. وضج الليل بأرواح وهمهمات الصغيرات يتضاحكن، من وراء ظهره، كلما داهمْنَه يمد يدَه يهم بإزاحة حجابها. تقلب فوق الفراش حتى لا يغيّب الموتُ قلبَه حزنا.

 بدت كلوحة جداريةٍ آشورية بقامتها الفارعة، تمتد حتى منصف جذعها من نافذة الحافلة، وتترك للهواء مهمّة الإطاحةِ بالحجاب؛ حتى لا تذهب إلى الشمال قبل أن تحققَ حلْمَه في رؤية شعرها. بينما الصغيرات يلصقن وجوههن المعفرة بالشمس ويقبلنه عبر الزجاج الخلفي. كاد أن يستسلم لإثارة الذكرى لولا قطع عليه نواحُ أمه ودمعُها الخدرَ الأوليَ للنعاس، فتقلب ليحمي قلبه من غارةِ ألمٍ قاتل. والده ترك كرسيه ذي العجلات ليذكره دوما بسبب بقائه وحيدا دون أشقاء، لم يبق في الحافلة متسع للكرسي. أعانه السائق على حمله بينما طأطأ والده بلا دموع.

تمنى أن يقطع الليلة باكيا لكنها كانت صافيةً جدا، والعصافير لم تترك له فرصةً واحدة يشحن فيها انفعالا بعينه يساعده على التركيز في حزنه. كانت تزقزقُ بلحن لطالما ألهمه موسيقاهُ الشجية العاطفية التي تمنى أن تحلّقَ به إلى عالم الثروة والشهرة. تماما كما فعل الحظ مع كاظم الساهر. كل الأهل والجيران كانوا يقولون بأنه يشبهه. لكنها كانت تهمسُ: أنتَ أجملُ من كاظم.

    لربما حملَ الغدُ صفحةً جديدة، الله كريم. لربما حوّلَت الحربُ مسارها إلى كوريا الشمالية. هكذا واساه أبوه الذي فقد ساقيه في الحرب العراقية الإيرانية. ورغم ذلك بقي الأب يرتدي سترته العسكرية صيفا شتاءً، ويستوي على كرسيه حالما بساقيه تنبتان من جديد. كانت أمه تولول توقظ جيران الغرفة الفقيرة: قم اخلع عنك بزة الشؤم. لكن والده كان مصمما أن للسترة العسكرية هيبة ووقعاً عند الناس. بينما الحقيقة حوّلت وهم القوة العسكرية شؤما وغما وجعلت من والده وحشاً مقعدا. كل شيء عسكري بات مكروها. اللون الأخضر العفن، وتمويهاته الرمادية صارت تزحف على جدران الغرفة كالأفاعي منذ أن صدر الأمر بالتطوع.

كان يتابع عبر التلفزيون حشد أميركا لقواتها في الكويت، ومفاوضتها بسخاء على تجهيز منفذ آخر في تركيا. فيخرج إلى النهر ليسرّ له بأنه لا يريد أن يحارب، ويريد أن يهرب إلى مكان آمن يغني فيه. وكان النهر يستوعب عقوقه بحنان ويتابع جريانه بثبات.

عندما كان في السابعة من عمره مات عمه في حرب الخليج الثانية والتي يسميها الكويتيون غزوا ويسميها الرئيس أم المعارك. ويسميها الأمريكان عاصفة الصحراء، ويسميها والده الفخ الأمريكي، ويسميها أستاذ التاريخ عودة الفرع إلى الأصل. وجاءت بنات عمه اليتامى ليعشن معهم في غرفتهم الباردة. وجودهن أشاع فيها الدفء والطراوة، ولم يحزنه أنه صار يضطر للنوم في باحة الدار ليلا أو يؤجل نومه لساعات النهار حين يكونون جميعا خارج الغرفة.  

افترشت سنوات العقوبات الدولية الذاكرة فتقلب تحت ضوء الفجر حتى لا يسحق القنوط قلبه. سمع صوتا يناديه فغادر الفراش، كان الرفاق قد وصلوا.

أطل من باب الغرفة مترددا، والنوم ينهمر من عينيه المحتقنتين بالدموع. تظاهر بالمرح. كانوا جميعا أبطالاً رغم أنوفهم. أحدٌ منهم لم يكن مغواراً ليقذف نفسه في فوهة بركان الحرب واهبا نفسه لمواجهة غير عادلة مع موت مؤكد. جرجروا أرجلهم إلى العربة العسكرية التي جاءت تلمّهم كبقايا الوليمة السابقة لتقدمهم قربانا للهولة المتوحشة. تماسكت عروقهم الشابة النابضة وتظاهروا بالإقدام. وتدافعوا كخرفان الأضاحي، بينما فاحت من أجسادهم رائحة الخوف. تلفت حوله، وبدأت الخواطر تتحاور:

-      ستحصدنا منجلُ الحربِ كسنابلَ طريةٍ من أول ضربة.

-      أخفض صوت أفكارك.

-      أنتظرُ ولادة طفلي الأول.

-      لا تنظرْ إليّ.

-      أمس ألّفتُ لحنا جديدا.

-      ستغنيه أشلاؤك.

-      قلت لك أخفض صوتك.

-      والعراق؟

-      لها الله.

-      إذن إلى أين نحن ذاهبون؟

-      لحمايةِ الطاغية.

-      أشح بوجهك عني. أنا لا علاقة لي به.

-      نشرتُ قصةً باسمٍ مستعار.

-      عندما تدور الرحى وتعجننا بالفوضى سألحق بأهلي إلى الشمال.

-      إخرس.

بعثرت الريحُ خواطرهم الخطيرة. واستهابت أمنياتهم مرأى الرشاشات في أيدي الجنود، فلاذت أبصارُهم بالمدى وأطرقوا صامتين. لوّح لهم النهرُ العظيم بوشاحه الأخضر مودعاً، ومدّت الشمسُ كفّها المباركة لتمسح شعورهم الشعثاء. وحده لم يستطع طرد اللحن من رأسه وأخذ صوته يعلو فوق صوت الريح. الأغنيةُ عاطفية ومبكية. حتما لو قدر له أن يعيش ليطلقها ستصعد به إلى حيث يتمنى أن يكون. سيختار اسماً فنيا ناظم العراقي، حلو. اسمٌ سيدل على انتمائه الفني والقومي. سيتشبث بعراقيته، أيجب أن يكون محاربا حتى يثبت هويته؟ تلفّتَ حوله.

وصلوا إلى الثُكنة العسكرية. شباب العراق يهدرون كموجٍ وسط الصحراء. وعبارات العقيد الرنانة تنخر آذانهم بأزيز الافتراءات. باسم القائد وللقائد، وفداءً للعراق. هذه الأخيرة وحدها زلزلت مشاعره المرهفة وبين أقرانه المتحمسين بدأت الدماء تغلي، وخفّت حدة الإحساس بالغبن والخديعة. ووزعت العهدة عليهم أزياء عفنة مموهة وبنادقُ منخورة وخوذ مهترئة متآكلة. كادت تفلت منه ضحكة يائسة، وهو يستلم نصيبه خوذة مثقوبة من غنائم حرب مضت. وكاد يجن ضاحكا وهو يتخيل شظية تجد طريقها إلى أم رأسه بسهولة دون أن تتكبد عناء اختراق الخوذة. عاجلَه العقيدُ بشتيمةٍ ورفسةٍ في الخاصرة وأتمّ خطابَه مريحا حذاءه الضخم على كتفيه. عندها فقط طار اللحنُ من بين صدغيه، وتقابل الفتى العراقي وجهاً لوجه مع تراب الأرض.. وتبخرت القطرات الباقية من كبرياءه المهدور.