الحِصار
الحِصار
يسري الغول
*- ليتني لم أفعل ، ليتني حقاً ، ليتني …
* * *
الثالثة عصراً ، و الحصارُ حصار
داخل مخيمنا الضيق، ومن بين دهاليزه المدمرة توجب عليّ الفرار من الموت ففررت. خرجت أهيم على وجهي في طرقات المخيم الصامتة علّني اصطدم بقطعة لحم منسية، أو برصاصة جافة تهوي بي نحو المجهول فتريحيني من عناء البحث في دروب الحياة الحمقاء. لكنني لم أجد أيا من هاتين الأمنيتين كأقراني، بل شيئاً جديداً تماماً. فلقد أكرمني الرب بقطة حمراء يافعة، و هذا يعني أنني أحلم، فأن تصدف قطة في شارع ما في مخيمنا على قيد الحياة أمر مستغرب فعلاً، و الأكثر غرابة أن تكون هذه القطة بذلك الحجم المثير لسيلان اللعاب. لحظتها كم راودني ذلك الإحساس المفرط بالسعادة من الولوج إلى منزلي بهذا الصيد الوفير، لكنني لم أكن أعلم أنها ستكون أكثر من سيحاربني حتى في لقمة عيشي إلى ذلك الحد البعيد لتصبح كل همي و غمي.
العاشرة مساءً ، و الخرابُ خراب .
بخطوات وئيدة ولجت المنزل، كان جميع أفراد العائلة في انتظاري، أو بالأحرى في انتظار ما في جعبتي من طعام. أمي، أبي، حتى أخواتي الأربعة. أغلقت الباب ثم تبسمت في وجوههم بينما تهادى ذلك القط اللعين بين يدي و عضّني بأنيابه عضة لا يزال خدرها ينملني حتى اللحظة، تركته و أنا أحدق في وجوههم واحداً، واحداً. لكنني شعرت بأن الدهشة قد أصابتهم حتى أن أحدهم لم ينبس ببنت شفة. فرُحت أتحدث لهم عن طريقة إعداده للأكل لكن صراخ أبي و بصاقه لم يتركاني أنهي حديثي، فقد بدأ يهذي بحنق:
- يلعن هالزمن الأغبر ما ألعنه!
ثم متابعاً:
- تريدنا أيها القبيح أن نذبحه، ما ألعنك أيها الشيطان.
و انتهى الحوار بأن قضينا ليلتنا دون طعام ..!
اليوم الثاني ، يوم الحكاية و الانفجار
لا أدري جيداً من أين تبدأ الحكاية بالضبط، لكنني أستطيع أن أخمن بأنها تبدأ من حيث انتهت تلك الليلة السوداوية التي أظلتني بنارها. كنت كمن يهذي طوال الليل، أحدق في جو السماء، أتضور جوعاً و خوفاً. أحاول طرد الذكريات المرعبة، الأفلام الكابوسية التي أعايشها، لكن دون فائدة، فكل العقد لا تنفك عني، لأن شيئاً واحداً فقط ما يلازمني هاهنا، الموت ولا شيء دونه .
المهم في الأمر أنني استيقظت. كان وجهي شاحباً، أخذت أنظر يميناً و شمالاً باحثاً عن كوب ماء لاصطدم بوجه ذلك الشيطان يحدق بي، كأنه يريد امتصاص شراييني، لحظتها صرخت و صرخت. خرج أبويّ ظانين بأنني قد أصبت بعيار ناري من إحدى الدبابات التي تحوم حول المكان. جاءوا و اجتمعوا حولي و هم يتلون آيات من الرقية، لكنني لم أهدأ و أنا أرى ذلك الشيطان يجلس إلى جوارهم، يلحس بلسانه النجس الملابس و الوجوه. هتفت بهم صائحاً :
- أخرجوا هذا الحيوان من غرفتنا ، أخرجوه ، أخرجوه .
ثم عاد لي رشدي ..
صباح ككل الصباحات المرعبة
خرجت ثم عدت برغيف من الخبز الناشف كان بجوار أحد الشهداء الذين لم يحالفهم الحظ بالتهام شيء منه سوى لقمة أو لقمتين، أعطيت جميع من في المنزل حصته من تلك الوليمة حتى قطنا القبيح، ثم ذهبت وحيداً إلى غرفتي و أنا أحمل تلك القطعة اليابسة من الخبز، ذلك الخبز الذي تقول أمي فيه الحكمة التي درجت على لسانها هذا الشهر " الخبز العتيق أكثر صحة من الخبز الطازج "، و قد كانت تعني في حكمتها تلك أن المضغ الكثير يولد الشبع بالقليل، و حتى هذا القليل لم أنل منه شيئاً، فما أن وضعت الكسرة في فمي حتى هاجمني ذلك الشيطان بأنيابه و مخالبه القوية ليستولي على تلك القطعة كاملة و لم أعد أفكر باستردادها منه لأنه بدا أكثر قوة مني ..
و تمر الأيام الحُبلى
أخرج هائماً، مشرداً. أحدق بالأرض القاحلة علها تنبت شيئاً يشفي آلام بطني الفقيرة. فآكل قبل العودة إلى المنزل حتى لا يؤنبني أبي إن ركلت ذلك الحيوان أو ضربته إذا هاجمني ..
بالأمس استطعت الحصول على لتر من الحليب، عدت به إلى المنزل فإذا أمي تطعم ثلثه للقط، و تعطينا الباقي. حينها لم أستطع أن أكبت جنوني، فصرخت بهم كالأبله:
- يا لكم من مجانين، نحن نحصل على أقل من الربع و الباقي يستولي عليه ذلك اللعين .
و لم أتوقف عن ذلك فقط بل سحبت ذلك القط من تحت الأريكة و رميته من الشباك إلى خارج مطبخنا. لكن أمي عنّفتني قائلة:
- أيها الأحمق ، ألست مسلماً .
و انتهى ذلك الغباء ..
زحف حتى الموت
أثناء رفع حظر التجوال عن المخيم في اليوم العشرين، وقفت في الطابور لشراء الخضار و لما انتهيت لم تكن الحكاية قد انتهت، بل قد بدأت، فقد بدأ التراشق بالمدافع و الرصاص من جديد و كان يتوجب عليّ أن أفعل كما كل ليلة. أن ازحف حتى أصل المنزل سالماً من الرصاص. و هذا ما حدث، فقد عدت إلى المنزل الساعة التاسعة. كان جميع أفراد العائلة يتناولون فطورهم بينما يجلس ذلك الوحش في مكانٍ منزوٍ عنهم يأكل خبزاً منقوعاً بالماء في صحن أبيض، لحظتها بدأ شيطاني يراودني، فأسرعت تجاهه و ألقيت ما في ذلك الصحن على الأرض بغضب ثم هتفت بعنف صارخاً في وجوههم:
- لن يأكل هذا الحيوان معنا اليوم شيئاً، بل سيخرج من المنزل و ..
.. صوت أمي لم يتركني حتى أنتهي من ذلك الحديث الأجوف، فقد صفعتني بشدة و كانت المرة الأولى التي تفعلها مذ كنت في الرابعة، ثم تابعت :
- يا معذب الحيوانات .
الموت للأعداء
رأيت ذلك القط بينما كان الجميع غارقاً في نوم الموات. انتهزت الفرصة و اقتربت من عدوي اللدود، مسدت له شعره الناعم ثم لكمته بعنف..
- لا أستطيع أن أراك تسمن كل يوم و أنا يصيبني الهزال.
قلت تلك الجملة بصوت لم يسمعه أحد سواي، ثم أمسكت ذلك الحيوان النتن و خرجت به نحو حاوية المخيم و هناك ضربته على رأسه أكثر من مرة، لكنه كان بعيداً عن الموت، ضربته مرات و مرات لحظة أن تهاوت في قيعان روحي تلك الجملة الرهيبة ( للقطة سبعة أرواح ) وإذا بجسدي يهتز، يرتجف. بدأت أضربه بعنف، ضربة خامسة ثم سادسة ثم سابعة حتى سمعت له طقطقة لم أسمعها من قبل و قد تغير لون الحاوية إلى الأحمر القاني، لحظتها فقط هدأت روحي، فبدأتُ أمسح العرق عن جبيني و أنا أحدق باللافتة التي أمامي بنظرة شزرة ( مخيم جنين يرحب بكم ).
*عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين
غزة – فلسطين