الضريح الضائع

نعمان إسماعيل عبد القادر

نعمان إسماعيل عبد القادر

[email protected]

جاءوا لزيارة الضريح.. والضريح يبعد عن آخر بيت من بيوت القدس من الجهة الغربية مسافة تقلّ عن عشرة كيلو مترات.. المكان يحرسه رجلٌ في الثلاثين من عمره تغطّي نافوخه طاقيةٌ صغيرةٌ منسوجةٌ من الصوفِ الأسود، يبلغ قطرها عشرة سنتيمترات، ثُـبِّتَ طرفُها بمشبكٍ صغيرٍ في شعر رأسه.. له لحيةٌ شقراء كثيفةٌ، ويلبس قميصًا أبيض متجعّدًا.. متسخ الأكمام، تدلّى نصفه على خاصره الأيسر وظلّ النصف الثاني مستورًا تحت سروالٍ أسود عليه بقع من غبار الأرض. يحمل في يمناه كتيبات صغيرة وكراريس صلاةٍ.  شمس الضحى كانت تحجبها بين الفينة والأخرى بعض السحب المنتشرة في كبد السماء. والطريق إلى المقام على الرغم من ارتفاع المكان وكثرة الأشجار، ووقوعه في منحدرٍ، ما زالت غايةً في السهولة منذ أن بَنى أهلُ القرية عليه قبَّةً وصرحًا تخليدًا لذكرى صاحبه قبل ستة عقود من العقود الزمنية. فالشيخُ لم يكن إمامًا وخطيبًا في مسجد القرية فحسب بل كان مصلحًا اجتماعيًّا وحَكَمًا مسموعًا لا يردّ له أي مطلب. إذ لطالما ذَكَرَ الناسُ ممنْ عاصروهُ قَدْرَهُ الْكَبيرَ مِنْ دَماثَةِ الأَخْلاقِ وحُسْنِ التعاملِ ويشهدَ لهَ عليْها القاصي والداني.. ما مِنْ نِزاعٍ كانَ يندلعُ بينَ حمائلِ العربِ، بفعل فاعلٍ أو بأيدٍ وراءها أيدٍ خفيّةٍ، في المنطقة كافة، إلا ويكون أول السباقين والمبادرين إلى إخماده.. ولمّا باغتته المنيّة ولم يكن يتجاوز يومها الأربعين ربيعًا، سارع للاشتراك في تشييع جنازته الكبار والصغار والأشراف وحتّى الرعاة من أبناء القرى من هذه المنطقة وما حولها.. وتخليدًا لذكراه العطرة فقد كُتبتْ على باب المقام العبارة التالية: "هذا مقامُ الشيخِ الفاضلِ الجليلِ زهيرِ بنِ مرادِ بنِ حسينٍ القاسميِ طيَّبَ اللهُ ثراهُ". وبُلِّغَتْ عائلتُهُ التي تسكن في إحدى القرى البعيدة بنبأ وفاتِهِ المفاجِئِ.. 

نزل عبد السلام من سيارته متعبًا من عناء السفر.. وردد عبارته الشهيرة التي هي جزء من قاموس العبارات التي يتغنى بها على الدّوام أمام أصحابه ويعبّر من خلالها عن فلسفته: "إنّ مَنْ يَزْرَعْ شجرةً يحيِ أمةً". ذهب إلى الجهة الأخرى وساعد جدّته "كاملة" في النزول.. امرأة تبلغ الخامسة والسبعين من عمرها، انحنى ظهرها قليلاً لكنّها لم تفقد من الذاكرة شيئًا. دأبت على زيارة قبر والدها منذ أن غادَرَ القريةَ أهْلُها، مرّتين أو ثلاث مراتٍ في العام الواحد. ودأبتْ في كل زيارة على تنظيف المكان من الحشائش والنفايات التي يُلقيها سكّان القرية الجدد.. رأسُها كان يغطّيه منديل من القماش الأبيض. حملتْ بيدها مصحفًا كبيرًا كانتْ قد أحضرته لتقرأَ وحفيدها على الضريح بعض السور القرآنيّة. تذكَّرتِ الْحُلم الذي شاهدته قبل أسبوع وشاهدتْ فيه والدها يجري لاهثًا نحوها ويناديها خائفًا من الذئاب التي تلاحقه ويطلب منها الحماية منهم، فاستيقظت فزعةً من واستعاذت بالله من هذا الكابوس..

 أرسل عبد السلام نظرة خاطفةً إلى داخل المقام فرأى رجالاً، على رؤوسهم طواقٍ صغيرةٌ، قد تحلّقوا القبر وأشعلوا الشموع عليه، يحمل كل واحد في يديه كتابًا، ويقيمون طقوسًا، وكانت أصوات ترانيمهم تُسمع من بعيد.

تقدّم الرجل منهما حتى أصبح على مسافةٍ تبعدُ عنهما بضعَ خطواتٍ ثمّ أخذ يستجوبهما بلهجة حادّة بعبريةٍ ثقيلةٍ دلّت على أن الرجل لم يتقنها بعدُ كلّ الإتقان:

-              من أنتمْ؟ ولماذا جئتم إلى هنا؟

-     نحن أبناء الشيخ زهير القاسمي ساكن هذا القبر وصاحب هذا المقام. هذه ابنته وأنا حفيدها. جئنا للزيارة وقراءة الفاتحة على قبر جدّنا.

-      أنتم حقًا مجانين.. إنَّ هذا القبر هو قبر القديس يشعياهو بن ناحوم. ولا يوجد قبور للعرب في هذه المنطقة.

-     من أين لك هذه الهرطقات؟ أي يشعياهو هذا؟ وأي بطّيخ؟ هذا القبر هو قبر جديّ والعظام التي فيه هي عظامه، والتراب ترابه. هنا دفن ونحن نزوره منذ أن دفن هنا. كيف تحوّل إلى ناحوم ويشعياهو؟

-     سيّدي! يبدو أنكم قد ضللتم الطريق أو أخطأتم في الوصول إلى العنوان الصحيح.. لا شيء لكم هنا. هيا انصرفوا! هل لديكم أوراق ثبوتيّة تثبت صدق ادعائكم؟ هل عندكم الحجج والبراهين؟ إذا كنتم تدّعون هذا، أبواب المحاكم مفتوحة أمامكم.

-              عن أي حجج وأي براهين تتحدث؟ وهل يملك أحد في هذا العالم أوراقًا ثبوتيّة للقبر.

-              إن لم تنصرفوا من هنا، سأتصل بالشرطة لأخذكم بالقوة. قلت لكم اذهبوا إلى المحاكم!

لم تنبس المرأة ببنت شفةٍ وتوجّهت إلى المقام غاضبةً وصرخت في وجوه المعتكفين وأخذت تكيل لهم الشتائم تلو الشتائم وهي تلوّح بيدها، وتدعو عليهم وتَتَّهِمُهُمْ بتدنيس المكان.

في تلك الأثناء ظهرت الشمس وكانت ساطعةً قويّةً تبعث الدفء في الأرواح، لكنَّ المرأة كاد أن يغمى عليها حين تهجّم عليها أحدهم وضربها بأم يده بكلّ ما أوتي من عزم لولا اندفاع عبد السلام ودَفْعه عنها لأصبحتْ في عداد الموتى. في حين أشهر أحدهم مسدسًا وهدّد بإطلاق الرصاص عليهما إن لم يغادرا المكان فورًا.. في تلك اللحظة كانت طلائع وفد جديدٍ من المصلّين تتقدّم نحو المقام، فأدرك أنه بات من الضروريّ مغادرة المكان. كانت الشمسُ حرارتها قويّةٌ تكاد تحرق الجلود، ضوؤُها ساطعٌ يبهرُ الأبصار؛ أشعّتُها خيوطُها حادّةٌ تعانقُ كلّ جسمٍ تلامسه على سطح الأرض، وأنفاس الأشجار تداعب خياشيم البشر. شغَّلَ مُكيِّفَ التبريد في سيارته ولبس نظاراته الشمسية حمل جدّته وانصرف بها في الحال. في أثناء عودتهما، قال لها والألم متغلغل في قلبه:

-     إنّ من يزرع شجرةً يحيِ أمّةً.. الفاتحةَ اقرئيها له في بيتكِ، في بيتكِ يا جدّتي.. إذا كان مِنَ الأحياء مَنْ لا وزنَ لهم، فعليكِ أن تفرحي كثيرًا لأنَّ والدكِ الآن – رحمه اللهُ- يُعبد ويُصلّى عليه وقد أصبح قدّيسًا وتُضاء الشموع على قبره...