في كَوْمَةِ شَوْك!

 رجاء محمد الجاهوش

أطْرَقَت تَسْتمع  كعادتها  إلى ابنتها اليافِعَةِ "نور" وهي ترتِّل آياتِ الذِّكر الحكيم بتجويد مُتقن قُبالة مُعلِّمتها السَّيِّدَة "هَناء"، وقد شَخَصَ بَصَرُها إلى نَبْتة الصَّبَّار التي زَرَعَتْها ذات صَباح جاف حار، كيفَ تطاوَلَ شَوْكها؟!

في هذه السَّاعة التي تقضيها في روضِ القرآن الكريم، تَشعر وكأن روحها قد غُسِلَت مِن أدرانها، وفِكرها المُتعَب قد اسْتراح، وقلبها الذي تخشى عليه المَوات قد دبَّت فيه الحياة مِن جَديد فقويَ وانتعش!

لكنَّها اللَّيلة في وَضْع مُختلف!

فالرُّوح مِنها في غُربة، والفِكر في شُرود، والقلب أعْياه القَهْر، والجسد أضْنته الخطوب!

لم يَستطعْ صَوت ابنتها العَذب أن يُزيحَ عنها ما تُلاقيه، لكنَّه اسْتطاع أن يَسْتَدرَّ دَمْعها.. فبَكت!

بَكت دون نَشيج، مُوارِيَةً دُموعها، فلم يَشعر بحرارتِها أحَد، ساتِرَةً وَجَعَها، فلم يَعرف مَكْمَنه سِواها!

قامَت بهدوءٍ تَنْوي إعداد الضِّيافة للسَّيِّدَةِ "هناء"، فقد شارَفَ الدَّرس على الانتهاء.

بَلَّلَت وَجهها بقطراتِ الماء الباردة، ثمَّ أخذت نفسًا عميقًا، تَسَرَّبَ إلى الأعماق، مُنْتَشِلا الغُصَص، ثمَّ أخْرَجَتْهُ زفيرًا، أطْلَقَتْهُ في الهواء، تَسْتَجْدي شيئًا مِن هُدوء قبلَ أن تعودَ محمَّلة بالأطايب إلى مَجلسها.

وَلَجَت حينما كانت السَّيِّدَةُ "هناء" تخاطِب ابنتها قائلة: أحسنتِ يا "نور"، حِفْظك ممتاز، وقِراءَتك في تحسُّنٍ، ما شاء الله.

- جزاك الله خيرًا يا مُعلِّمتي.

- سنُراجع ما تمَّ حِفظه بعد غَدٍ  إن شاء الله  فاسْتَعِدِي.

بادَرتْها الأمُّ قائلة: لا تقلقي يا سيِّدتي، "نور" فتاة رائعَة، وهي دومًا على قَدْرِ المسئوليَّة.

- وفَّقها الله، وجعلها قرَّة عين لكم.

- اللهم آمين.

 عادَت الأم إلى كرسيّها بجانب نبتة الصَّبَّار، بينما تولَّت "نور" مهمَّة صبِّ الشَّاي، وتقديم الفطائر المشكَّلة إلى أمِّها ومُعلِّمتها، ثمَّ جَلست بجانب معلِّمتها في حَياءٍ ووقارٍ.

تهادَى صَوت الأمِّ مُنكسِرًا حَزينًا، فانْجابَت سُحُب الصَّمْت التي ظلَّلَت المكان للحظات: ماذا بَقِيَ للصَّادقِ الحرِّ الأبيِّ؟!

دُهِشَت السَّيِّدَة "هَناء" من سَيْل الحروف الذي سُكِبَ في أذُنَيْها دون سابِق حِوار، فقالت مُتَسائلة: ما الأَمْر؟

- يُصَفَّقُ للكاذِبِ، وتُهْدَى الأوسمة للمُحابي، وتُفَتَّح الأبواب للوصوليّ، وكلّ الأمْكنة مُشَرَّعة أمام المُراوغ، فماذا بَقِيَ للصَّادق الحُرِّ الأبيّ؟!

وقبل أن تَنْبِسَ السَّيِّدَةُ "هناء" ببِنْتِ شَفَه، جاءَ صَوت "نور" الجَهْوَرِيّ مُجيبًا: "قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" [ يونس: 58]