الغريب ثانية
محمد المهدي السقال
القنيطرة / المغرب
سألـتـني عن حكاية حدثت أو تحدث في هذا الزمان دون أن ترهني بمكان، قلبت أوراق الذاكرة، فلم أجد أدنى إليَّ مما وقع قبيل ثالث انتخابات قيل إنها ستكون نزيهة هذه المرة، لكنها كانت أم الفضائح.
استوقف شيخ الدوار أبي مترجلا يسبقه حمارنا الأليف في طريقه إلى السوق الأسبوعي، بينما كنت أنوء خلفه بحمل كيس لم يسع ظهره المثقل بالملح الصلب من حواشي النهر.
كان الشيخ الوسيم في مقتبل العمر، أحد الخدام الأوفياء ممن حظوا برضاء القايد في المنطقة، تعمدت الإبطاء لعلي أستبين موضوع الحديث، رغم سرحان ذهني في تأمل لباسه الأوروبي، و خاصة ربطة عنقه الأحب إلى نفسي مما يرتديه، سمعته يهمس بالحاجة إلى مساندة رجل سينزل بيننا طالباً راغباً في الترشح نيابة عنا للكرسيّ في برلمان هذا العام.
رأيت أبي يبصق بكل ما أوتي من لعاب خلف ظهر الشيخ، ولم يكن ظله قد بارح النظر: " الله يلعنها سلعة." هكذا غمغم أبي معلقا على اللقاء ،
وددت أن أبتسم في وجهه، لولا يقيني بأنه كان منهم بشكل من الأشكال،
ما حسبت رد فعله سوى مداراة لما ينتظر من رد فعلي، كعادتي حين يكون للأمر صلة بالسياسة بيننا، منذ عودتي إلى القرية خاوي الوفاض إلا من شهادة جامعية لا تسمن ولا تغني من جوع،
أصبح أبي يصدق مقالتي في المخزن و أهله، أو هكذا يوهمني على الأقل،
ودعه'' الشيخ'' مُلِحاً في التعويل عليه لجلب الرؤوس إلى مائدة المترشح الجديد، قادماً من أعرق مدن البلاد مهد الدولة الشريفة.
عرفت أبي ربما أكثر مما كان يعرف عن نفسه، ما زال صدى أشبه بالأنين يرن في أذني كلما ألقى بجسده في الفراش فلا يسمع غير صوته متقطعا بين فراغات صمت منتصف الليل، ثم تدب حركة طالما كان صدري أو وجهي مسرحها بخطوات عشواء تتحسس الطريق إلى ركن الماء، بعدها قد يهمد كل شيء، وقد يستأنف حديث بينهما حول مجريات يوم أو حدث، يتماوج كلامه بين تسفيل وتصعيد، بينما لا يصدر عنها رد أو تعقيب إلا على موافقة أو اتفاق، ظل صورة أبي فارسا في الليل والنهار، على امتداد مراحل تمدرسي بين القبيلة والمدينة المجاورة، لم أشعر بأني أحقق شيئا أريده أو أحلم به، كانت أحلام أبي في تعلمي أكبر، هل كان يتخيل يوما أعود فيه إلى القرية منفوض الجراب سوى من آثار عصي بالظهر.
في مدخل السوق، علا صوت عبر مكبره الآلي ، اختلط بأصوات " الحلايقية" الموسميين، كان الأحب إلي منهم منشط حلقة القرد الذي يقلد به صاحبه جلسة الملوك والتجار والقياد، رغم كبري، ظللت معجبا بالتوقف عند مشهد التقليد الكاريكاتوري، لعله كان يشفي غليلا من حنق على السلطة في هذه البلاد الكريهة.
دنوت ، صوت جهوري يـبالغ في نطق عربية تحرص على رفع الفاعل ونصب المفعول وخفض المجرور،
لم أخطئ في التعرف على خطيب يلقي كلمات كبيرة من مزادات الأحزاب في مثل مواسم الانتخابات هذه، وجه أبيض البشرة ليس له من سحنتنا غير الشكل الآدمي،
لمست أنه كان ألثغ اللسان تعانده الراء، من قاد حمار البيت غدوا و رواحا، يعرف آفة الإخفاق في نطق حرف الراء حين تهوي إلى غين، إما يسخر منك الصغار بترديد الغين حين تختلط بضحك أو بكاء، و إما يسخر منك الكبار بنسبتك إلى قوم "فاس" القديمة، وكانت سبة يعير بها في القرية،
كيف يمكن أن تفهم قريتي ما يقوله هذا الغريب؟؟!! ونحن البعيدون عن مسقط رأسه بآلاف السنين، كان الصورة الحية الناطقة للبهلوان، نزل من دكة نصبت له بمحاذاة سوق الخراف، وزع بسخاء قبلا بأحضان رواد البيع والشراء.
رأيت أبي متسللا بقامته القصيرة نحو خيام الجزارين، على غير عادته، لم يتقدم لواجهة الحضور كي تؤخذ له صورة مع القايد أو المترشح،
لا أدري كيف انتابتني مشاعر الاعتزاز بأبي وهو يغيب عن العيون،
هل كان يلعن الزمان و أهله؟! لعله قبلي كان يعرف نهاية الحكاية.