مقاتل يتنفس من فوق سماء

مقاتل يتنفس من فوق سماء

أ. تحسين يحيى حسن أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

دخل المقاتل الحزين غرفته المبنية من طين لازب ، يتفقد سقفها وجدرانها ، وقد بدا عليها مفاعيل السنوات العجاف ، وآثار شظايا القصف التي كانت تصب السم الزعاف ،  وفجأة تذكر الموقع الذي حاصرته قوات بني قومه من أصحاب السلاسل الذهبية ، وقصات الشعر المارينزية ، مدججة بالأسلحة العربية واليهودية والمسيحية ، وكيف نجا منه بأعجوبة تفوق الخيال ، وقد مزقوا برجولة تشهد لها سادات البيت الأبيض والعلم الأزرق وأطفال القمم العربية ، مزقوا بقذائفهم أجساد كل من كان في الموقع من إخوانه المجاهدين .

 كان وجهه شاحبا حزينا ، ولكن روحه لم تكن مثل لون وجهه في لحظة من لحظات الصفع التاريخية ، كما لم تكن روح أحد من أبناء شعبه ، إلا فئة قليلة من المرتزقة والموتورين ، بل كانت روحه دائما تلامس وتعانق صفحات عنان السماء ، في علوها وبهاء بريقها ، يتنفس من فوقها الصعداء ، تداعب سحابات الفجر القادمة من جهة الحرم القدسي ، وجهه الجميل بجمال قضيته ، تحملها إطلالة النسيم العليل ، ورقة ساعة البزوغ  بوداعتها وصفائها .

شغل وقته بدندنة تارة ، لم أتمكن من سماعها ، وبآيات من كتاب الله تارة أخرى (( ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا من بعدهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ))

 تيمم للصلاة بصعيد الطين المبتل بعرق أمه الحنونة ، من فوق صخرة كأداء جاورته بحق الجيرة ، كان يستظل بظلالها ، وكانت تحجب عنه الطلقات ، عندما كانت تجلس أمه تحت شجرة الكروم ، تطحن القمح من بعد يوم الحصاد ، وفجأة حلّق بعينيه السوداوتين في السماء ، ثم كفكف دموعه وعاد إلى دندنته ؛ ليصلي صلاة الفجر مع العصر بوضوء ماء الغيب صلاة مودِّع .

 توجه نحو آثار الدمار والشظايا المبعثرة في أنحاء بيته ، اتخذها قبلة يصلي إليها ، يتلو آيات ألم نشرح من كتاب قضيته المقدس بقدسية دم رفاقه ، ثم نظر إلى جدران غرفته التي بقيت متماسكة شيئا ما ، فوقع نظره على شقوق أكل الزمان عليها وشرب ، كما أكل الزمان وشرب على خارطة تجاعيد وجه والده ، في صورته المعلقة فوق الحائط ،  تشكو الغربة وتئن أنين الظلم والحرمان .

 حلَّق من جديد ، ولكن هذه المرة كان يتنفس من فوق سماء ، طار بخياله يربط ذكرى الهجرة والدار، ويناعة الطفل الغلام ، تذكر حلقات سلسلة مترابطة من المذابح والإبادة والتنكيل ، في يافا الغربية واللد والرملة جارتها ، ورفح وجباليا ، وريشون والحرم الخليلي ، ودير ياسين وقبية ، وتل الزعتر ومنتدى الشاطيء ومفترق الرئاسة ...... والحلقات تتعانق وتتصافح ولا تتناهى .

 جمع همته المشحوذة منذ أيام رضاعته الأولى ، هِمّة تحولت إلى جامعة يتفيأ ظلالها كل براكين العصر في زمن الهزل ، ويتخرج منها أطفال الحجارة والآر بي  جي ،  الذين تعانقت أصابعهم الغضة ، من الشمال إلى الجنوب ، ومن شرق النهر إلى غرب البحر ، ووقَّعت قلوبهم وثيقة حلف الدم الأبدي المسفوك ،  على مفترق طريق واحد لا ثاني ولا بديل له ، مرسومة معالمه وحدوده فوق ضاغط كل زناد .

 نادى على أمه بأعلى صوته ، وقد أنبتت عظامها حرابا : أُقسم بالله العظيم ، ثم أُقسم بدمك الذي سفكه المحتلون ، و أُقسم بدماء إخواني التي سُفكت على أيدي رؤوس ثعابين الغدر وخفافيش الظُّلمة في جحور الأوكار المدعومة صهيونيا  .

 أمسك بقلمه وخط لحن خلود وصيته الأزلية : قسما بالله الجبار لتعودي يا دار .

 ولكنه لم يكن ليكمل لحن وصيته ، حتى سمع بجلبة الحدث وبصفيره وفزعه ، على أيدي ثلاثي الشيطان التي اعتلت الهضاب ، وإذا بالعناق المنسجم حرارةً بين صواريخ نجمة داوود مع طلقات قصات شعور الجواميس ، كل يتنافس على شهادة الامتياز مع درجة الشرف ، من تحت نعال الطفل عبد الجبار، الذي فقد حياته برصاصهم ، وهو يلهو بدميته ، وقد تحول إلى جثة هامدة ، بجوار حقيبته المدرسية التي دمغت بأختام كامب ديفيد وشرم الشيخ ، وأوسلو ومدريد وطابا وباريس .

 كانت الطلقات اللعينة تزغرد شامتة ، من فوق الجماجم من كل حدب وصوب ، انبطح أرضا، ثم زحف ليرقد تحت الشجرة الأثرية ، التي لا تغيب ذاكرتها ولا يُمحى أنينها .

 تدفقت في دمائه كل معاني الرفض والإباء والكبرياء التي لا يحبها الله إلا في ساحات الوغى .

 لم تصبه حمى الخوف ، ولم تصفعه المفاجأة لحظة واحدة ، وتذكر وصية أبيه وهو يحمله على كتفيه ، في يوم الهجرة الحزين أفلت شمسه بعيدا قائلا له : الأرض عرض يا ولدي . 

 بل تابع بعيونه قِطع الشظايا ودلالات المجد ، المنتشرة معالمها في أروقة بيته ، وداخل أحشائه ، وقد أعدّ طعاما لإخوانه المجاهدين .

 سكت المقاتل الحزين سكوتا عميقا بعمق بحر لُجي راكد ، من فوقه بحر من فوقه سحاب ، ظلمات بعضها فوق بعض ، ولكن في هذه المرة يرفض الظلام ويقاتله ، ولا يُقر بتلك الظلمات التي بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ، فقد سقط في أوحالها الساقطون الذين باركوا الليل وهللوا له تصفيقا ، وسبحوا بحمده تمجيدا وتقديسا ، هو ليس هكذا بل هو شعلة نور يهتدي به كل ذي شهامة وإباء ، وعقيدته إما النصر أو الاستشهاد .

 لقد تجسد ذلك النور جليا في طلعة سناه البهية ، وانبثق بعد زوال ليل ، وتجسدت ترانيم كتابه المقدس ، في أولئك الرجال الذين أدّوا قسم الجهاد والاستشهاد ، والذين أنْبتهم على أنقاض بيته المدمر، وغذاهم من ترابه المجبول برائحة البارود ، وأرواهم من النبع الأبدي الذي لا أسانة فيه .

 بدأ الجميع يسمعون أصوات طلقات الصواريخ والمدافع والرشاشات ، لتنبههم بميعاد فطور الصائمين عن كل شيء إلا عن الحنين ، وقد رفضوا حالات الوجوم والشجون والانصهار والضعف والضياع ......

  ابتسم الجميع ابتسامة لا يعلم بمدلولاتها ومكنوناتها إلا الذي رسمها على محّياهم ......

 خرج جميعهم وعلى ظهورهم معدات المواجهة ، يرافق كل منهم كتاب الله في قلبه ، وإيمانه العميق بإحدى الحسنيين .

في منتصف الليل تفرق الجمع إلى لقاء الخُلد يرددون (( وما النصر إلا من عند الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم )) .

  أخذ كل واحد منهم موقعه في عرينه على حافة السياج الفاصل بين البحرين ، يعض أول لقيمات تدخل بطنه منذ فجر أمس بعيد ، وكان بانتظارهم طائر النورس المعهود بلونه الأبيض يحلق في سماء العز ويغرد : يا حبيبي كل شيء بثمن ، وعشت يا وطن .