وستكون الأيام جميلة

محمد صباح الحواصلي

وستكون الأيام جميلة

محمد صباح الحواصلي

كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة

[email protected]

 نبضَتْ في مقلتيها دفقة حنان سخية كالشمس, "أوتحسبُ أنه خافٍ عليَّ ما في عينيكِ من قلق؟" وضعَتْ فلة في كأس ماء ثم جعلتْ تمرر أناملها على ظاهر يدي. قلتُ لها:

"لقد تدهورتْ صحتي أكثر يا فريال."

رفعتْ عينيها إليَّ ولاح في تألقهما ابتسامة رضية:

"بيد أني مطمئنة يا صلاح.. ستبرأ وستكون أيامنا جميلة."

"أتذكرين؟"

كانت رائعة حقا تلك الأمسيات الشتوية حيث الدفءُ والشِعْرُ والكستناءُ يتفلقُ فوق الموقدِ, ودفترُكِ الذي جمعْتِ فيه أحلى الكلم.. قلتِ لي أكتبْ ما تشاء على صفحته الأولى..

أتذكرين ما كتبت؟

"أنتِ التي أنا لكِ وأنتِ لي وأنا منكِ وأنتِ مني وكلانا واحد."

وفي أمسيةٍ شتويةٍ أيضاً, أحلامها مشرئبة كالنخيل, طوقني الإختناق.

"لا تقلقي مجرد نوبات ربو خفيفة تنتابني في الشتاء."

ولكنها الآن ليست خفيفة.. من الصعب أن أصدقَ أنها لن تبرحَ أنفاسي أبداً. وكأني أتصارعُ معها تحت الماء. أنزعُ حشائش برية عالقة على جسدي, أعرف جيداً أن الربو لا بَرْءَ منه, وأعرفُ أن القدرة على التنفس – كما يتنفسُ خلقُ الله – شيءٌ لن أطاله ما بقي لي من سني العمر. لكن دائماً يحلو لنا أن نغتالَ الحقيقة:

"سأبرأ.. وستكون الأيام جميلة."

ما أروع تلك اللحظات التي نصنع فيها أحلام العافية.

"ما رأيك يا صلاح لو نخرج ونسير قليلا؟"

سرنا عبر رصيف طويل تمتد على طوله شتلاتُ نخل صغيرة. هاديءٌ كل شيء من حولنا. وهذه النسماتُ المنعشة أحالتْ ذلك النهار إلى ربيع مفاجيء. يركضُ صغيرنا. يقع. أعجِّلُ خطوي وراءه. يقوم وحده ويتابع ركضه. أشعرُ بإجهادٍ في صدري. رباه! مجرد خطوات جعلتني ألهثُ كالمكدود. أتحسسُ بخاخة (الفنتولين) في جيبي. أضخُ دفقتين في فمي.

"يجب أن نعود يا فريال. لم أعدْ اقوى على السير."

تنادي صغيرنا: "أحمد."

يهرب من نداء أمه. تتدافع الضحكات من أعماقه. يعجِّلُ من خطوه, تتبعه وتمسكُ به.

رائعٌ ولدي.. والدربُ طويل..

ينتابني اصرارٌ أنه لا بد من العافية. أشعرُ أنَّ النوبة قادمة.. فراسة ألفتها وأصبحتُ بفضلها قادراً على معرفة شراسةِ النوبة.

"ستكون شديدة هذه المرة يا فريال."

كثيراً ما تكون البداية عسراً في التنفس ثم تتضرعُ بعده كل خليةٍ في جسدي لتنعمَ ولو بشهيق واحدٍ من الأكسجين. ويجثو الداءُ فوق صدري. يستحيلُ إلى زمن تتمطى ثوانيه ببلادة وتمارسُ ساديتها فوق ضلوعي.

ما كان علينا أنْ نعودَ إلى البيتِ والنوبة آخذه بالإشتداد. كان يتعينُ عليَّ أن أذهبَ إلى أقربِ مشفى.

أسند ذراعي إلى الجدار وتجولُ عيناي عبر النافذة في الدنيا الرحبةِ الممتدةِ أمامي حتى الأفق البعيد.

"ألا تستلقي يا صلاح؟"

"من الأفضل أن أبقى واقفاً" أشعر وأنا واقفٌ أنني أكثرُ قدرة على ملء رئتي بالهواء والتحكم بأنفاسي. ثم إني أكرهُ الإستسلام للسرير. هكذا – على الأقل – أجابهُ خصمي وجهاً لوجه.

أنظرُ إلى الناس والدنيا, إلى السماءِ والأفق الرمادي, إلى تلك الجبال الباهتة اللون لفرط بعدها, أما تلك الواحات الخضراء فهي ما يثير ويؤجج توقي للحياة. يجب الاَّ أنفعل كي لا أزيد من هياج صدري. تعلمتُ – كلما هاجمتني نوبة – أن أسلم جسدي كله للركون وأصرفَ طاقتي لعملية جذب الأنفاس وضخها, ويقيني أنها عملية مضنية. عيناي هما الوحيدتان اللتان تتحركان بنشاط وتجوسان بنهم كل ما يقع في ساحتهما.. أتمسكُ بكل ما تراه عيناي. لن ينقطعَ ما بيني وبين هذا العالم من ودٍ وتوق. أشتاقُ إلى كل ما يجري حولي. عجباً كيف لم أرَ الدنيا والناس على مثل هذه الروعة من قبل!

يشتدُ الإختناق..

ليس أمامي إلا أنْ أضاعفَ جهدي في جذب أنفاسي. رئتاي أصبحتا الآن أكثر انسداداً. لا تكاد تدخلهما مسكة من نفس. كل شيء في داخلي يتلوى كسمكة في شبكة صياد, حتى تفكيري يتلوى ويجول دون إرادة مني.. يسترقُ نتفاً من ذكريات, يغوصُ عميقاً لالتقاطها. أعجبُ كيف بلغ تلك القيعان من مجاهل الذاكرة الموغلة في العمق.. كنتُ صغيراً أركضُ في بساتين الغوطة المزهرة.. زهرُ المشمش من حولي ربيع لا ينضب. أنادي إخوتي:

"هيا نتسابق.. أنا الحصانُ الأبيض.."

أشقُ الهواءَ العابقَ بأريج الزهر وأغوصُ في المروج.. كانت الدنيا آهذاك فرحاً وكنا على يقين من أن الأيام الآتيات ستكون أبداً جميلة.

"أكاد أختنق.."

هذا ما قالته عيناي. ويروعني أن أرى الجزعَ في عينيك. تنظرين إلى أظافري بقلق. نعم, لقد أضحَتْ زرقاء.. وهذا يعني خطوة أخرى نحو الخوف الحقيقي. عيناكِ ضارعتان في اتزان وسكون. أروع ما فيهما ذلك الكم الهائل من البشْر والأمل. لا بدَّ من البقاء لأنَّ أيامنا دائماً في انتظارنا. ولن تكون الأيام إلا جميلة.

انقباضة مفاجئة شرسة تنالُ من قدرتي على التنفس. يثقلُ رأسي. أتأرجحُ بين الغيابِ والوعي.

جسدها الدافيء يعينني على السير.. أسيرُ ببطء مضن.. أشعرُ وكأني أقتلع من وجودي. نخرج. يلفحني هواء على شيء من البرودة, وتسكنُ أنفي رائحة الشارع. كلُ شيء صامت من حولي.

" تكسي.." تنادي.

وتنطلقُ بنا سيارة الأجرة الصفراء عبر شوارع خالية. الليلُ, والأضواءُ, وهذه النجوم المنثورة على صفحة السماء الحالكة.. اشياءٌ جميلة.

الحياة جميلة ولا بد من العافية.. منْ أنْ ينجلي الإختناق يوماً.. رائعٌ ولدي والدربُ طويل.

وستكون الأيام جميلة. وزوجتي الجميلة ستكون سعيدة.. والدنيا السعيدة ستعود جميلة.

وتلتهمُ عجلات السيارة الطريق الإسفلتي.. وكان الليلُ, والأضواءُ, وتلك النجوم المنثورة على صفحة السماء.. سكوناً.