الشجرة
( قصة من واقع الطفولة )
أ.د/
جابر قميحةيا رَب خضِّرْ ورقتنا
على شجرتْنا
إحنا واخواتنا
والعدو يطِقْ يموت
كان هذا هو النشيد الطفولي الذي كنا نردده في غرة المحرم من كل عام ...
تشرق الشمس ، ويدب النشاط في كل بيوت الحارة ، وتقوم الأمهات بطبخ ألوان من الطعام المخصوص في هذا اليوم المبارك ، أما نحن أطفال الشارع فنذهب إلى أرض خضراء كثيرة الشجر ، ويتسلق " رشدي " أقصر الأشجار ليقطع منها عيدانا مورقة ، وندخل حارتنا يتقدمنا رشدي أقوانا وأشدنا ، ونرفع الأغصان كأنها سيوف في أيدي فرسان ، ونردد نشيدنا المحفوظ الذي ذكرته آنفا .
وسالت جدتي عن معنى هذا الكلام فقالت بصوتها المتهدج : فيه يابني في السما شجرة كبيرة ... كبيرة ، فيها أوراق بعدد الناس كلهم ... لكل واحد من بني أدم ورقة عليها اسمه ، لو ذبلت ورقة ووقعت فهذا معناه أن صاحبها مات . أما الورق اللي يفضل أخضر فدا معناه أن أصحابه عايشين ، لذلك في كل سنة بندعي ربنا أن ورقتنا تفضل خضرة على طول .
وضحكت جدتي حينما قلت لها : أنا نفسي أشوف الشجرة دي ... أشوفها ولو مرة واحدة .
**********
وبعد أن انتهينا من نشيدنا في حارتنا والحارات المجاورة قال رشدي المعروف في الحارة ب " الولد الشقي " : يلا بينا يا جماعة نروح ناكل توت .
وهذا يعني أننا بالإنشاد قد انتهينا من الفقرة الأولى . أما الفقرة الثانية والأخيرة فهي " أكل التوت " . وهذا يتطلب أن نذهب إلى " فريع " وهي أرض تقع في الطرف الغربي من بلدتنا حيث تكثر أشجار التوت والجميز . وكنا نعزف عن الجميز لأن حمولة الشجرة كلها من " الجميز الباط " الذي لا طعم له ولا رائحة ، لأن كل ثمرة منه تحتاج أن يصعد صاحبها ويشق بموس ناحية منها . وبعد أسبوعين تجنى وتكون في حلاوتها في المرتبة الثانية من التين .
أما أشجار التوت فنوعان : شجر ثماره حمراء تضرب للسواد ، أي أن لونها " أحمر قاني " . وشجر ثماره بيضاء . وكنا نميل إلى النوع الأول ، ونصبغ أكفنا ببعضه بعد أن نشبع منه ، وندخل الحارة مصبوغي الأيدي باللون الأحمر حتى يعرف الآخرون أننا " أكلنا توت " ... وكنا نقولها في زهو ومباهاة .
والحصول على ثمرات التوت يكون ب " الهز " ، يتسلق واحد منا الشجرة ويهز أغصانها بشدة فتسقط على الأرض الخضراء فنلتهمها بنهم . قال رشدي : " تعالوا للشجرة التى تطل على الترعة فثمارها غزيرة " ... وتسلقها رشدي ، وأخذ يهزها بعنف فتسقط أغلب الثمار على شاطئ الترعة ... وقليل يسقط في الترعة فلا نحصل عليه .
أكلنا ... وأكلنا ... وبعضنا وأنا منهم كان يلف بعض ثمار التوت في ورقه الأخضر ويدسها في جيبه . وأسرف رشدي في الصعود ... وسمعنا صوته من أعلى : " احجزوا لي نصيبي ياولاد ... " . ويظهر أن إغراء الثمر شده إليه ، فأخذ يتناول التوت بشراهة ، ونسي أنه في قمة الشجرة ، فزلقت رجله ، وهوى في لمح البصر إلى الترعة ، وغاب في الماء ، فصرخنا ... وهرول إلينا بعض الفلاحين وأخرجوه من قاع الترعة العميقة ، ووضعوه بجانب الشجرة على ظهره ، وأخذوا يهزونه بشدة ... ولا حركة . وفجأة شق الجمع رجل ضخم وأمسك بيمين رشدي لمدة دقيقة ، ورفعها إلى أعلى ثم تركها ، فسقطت على صدره . ووضع الرجل أذنه على الجهة اليسرى من صدر رشدي . وفجأة نهض ، وصرخ " بلغوا الإسعاف والبوليس يا جماعة ... الواد مات " .
ونزلت علينا هذه الكلمات كالصاعقة ، فتركنا المكان وأخذ كل منا يجري بأقصى قوته ، كل في طريق . وخِلت أنني إنما أجري في ظل شجرة ضخمة جدا ، أوراقها خضراء لامعة الخضرة ، وحينما اقتربت من الحارة انتهى الظل ورأيت على الأرض ورقة ذابلة .
وصعدت إلى البيت مفزوعا مجهدا أتصبب عرقا ، ودخلت الحجرة التى أنام أنا وجدتي فيها في الدور العلوي من البيت ، كانت تغط في نوم عميق ، وجلست أنا على طرف سريري ... حزينا ، أبكي في صمت ، ووجدت يدي تصطدم بجيبي المنتفخ ، فأخرجت ما فيه ، فإذا بورقة من أوراق التوت ملفوفة على أربع ثمرات ، فأكلتها على عجل ، ودموعي تغسل وجهي ، ورحت في نوم عميق .