السابحون في السماء
السابحون في السماء
عبد الله الطنطاوي
عبد الله أبو جناح شاب نشأ في طاعة الله،وعرف بين أهله وزملائه في المدرسة والجامعة والعمل، بنقاء سريرته، وذكاء عقله، وصفاء قلبه إلى جانب صباحة وجهه، وجمال عينيه الحالمتين بمستقبل وردي لأبناء شعبه البائسين التاعسين.
كان همه التفريج عمن يلقاه من الفقراء من إخوانه وزملائه.. قرأ كتب حسن البنا، وسيد قطب، وتشبع بأفكارهما، وسلوكهما، فكان ينهج نهجهما في الفكر والسلوك معاً.
وكانت زوجته امرأة صالحة، من أسرة ثرية كأسرته، تحبه حبا جعلها تترك ما نشأت عليه من رفاه، وبذخ في المسكن، والملبس، والمطعم، وتحيا مثله حياة الزهد في هذه الدنيا، والعطاء والبذل، والحدب على من تلقاه من المساكين.. كانت صورة طبق الأصل من زوجها عبدالله.
استيقظ عبدالله قبيل الفجر بساعة، كعادته، وأيقظ زوجته التي اعتادت أيضاً، مشاركته في صلاة التهجد، والإستغفار، والتسبيح، ولكنها اليوم لاحظت شحوبا في وجه زوجها، فقد غاضت نضارته، وكانت ابتسامته ونظراته تعبر عن قلق..
سألته في ود:
- مالك يا حبيبي؟ كأنك لم تنم.
أجابها بابتسامة لم تعهدها فيه، طوال السنوات العشر التي أمضتها معه:
- أنا خائف.
- خائف؟ ممن؟ من ماذا؟
قال عبدالله:
- حلمت اليوم حلما مخيفا.
قالت له، وهي تريد التخفيف مما في نفسه من قلق ظاهر:
- ومتى كانت المنامات تخيفك أيها الشاب القوي بإيمانه!.
قال عبدالله، وكأن روحه قد ردت إليه:
- المنام جميل..جميل جداً، وأتمنى أن أراه آلاف المرات، ويا ليته يتحقق!.
- ومع ذلك، أنت خائف؟ هل هذا لغز؟
تناهى إلى مسامعهما صوت الشيخ الدايخ، وهو صوت عجيب في نداوته وتأثيره على سامعيه، وخاصة في تسبيحاته وتذكيره وقت الأسحار، فهب عبدالله إلى النافذة ففتحها، برغم برودة الطقس، فقد كان < سعد بلع > في أوله، وتنفس نفساً عميقاً، ووقف يصغي إلى أذكار الشيخ الدايخ: "سبحان الله.. ياالله.. الحمد لله.. ياالله.. سبوح قدوس.. ياالله.."
وكانت أم محمد تقف إلى جانبه، تراقبه في حذر، وقد استبد بها القلق لحال زوجها الحبيب..
قال لها عبد الله، دون أن يلتفت إليها:
- كانا كالثريا، وكنت بينهما.. انظري إلى الثريا؟
وأشار بأصبعه نحوها فسألت أم محمد:
- من هما؟
- حسن البنا وسيد قطب.
قالت أم محمد:
- هذا صحيح، فهما رجلان عظيمان، وأرواحهما تسبح في ملكوت الله، تشكو إلى الله ظلم الظالمين، وتدعوه أن يخلص الأمة من الطواغيت، لتعود إلى دينها، وتستعيد أمجادها.
قال عبدالله:
- سمعتهما يقولان كلاما مثل هذا.
سألت أم محمد في استغراب:
- سمعت من يا أبا محمد؟
أجاب أبو محمد في شرود:
- سمعتهما يتحدثان.
- سمعت من؟
- سمعت الإمام الشهيد، والأستاذ الشهيد، يقولان كلاماً مثل كلامك.
- أين سمعتهما؟
- سمعتهما هناك، حيث كنا نسبح في السماء.
سألت أم محمد في قلق:
- كيف سمعتهما؟ كيف كنتم تسبحون في السماء؟
وتناهى إلى مسامعهما أذان الفجر، فقالت له وهي تغلق النافذة:
- دعنا اليوم نصلي الصبح هنا.
قال في سهوم:
- كما تحبين.
وقرأ في صلاة الفجر سورة الفجر، وسورة الليل، بصوته العذب، وبكى وهو يتلوهما، وبكت امرأته الشابة الصالحة،وبعد الصلاة مسح كل منهما عينيه ووجنتيه بظهر كفه، وجلسا يقرآن المأثورات، والورد القرآني اليومي.
كانت أم محمد تسترق النظرات الخائفة إلى زوجها الحبيب، وقلبها خائف مذعور، وتدعو الله أن يحفظ لها زوجها وأطفالها الثلاثة وأن يحفظ كل الآباء لأطفالهم وتذكرت يتم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فدمعت عيناها وهي تتمتم "فداك نفسي يارسول الله، يا أيها اليتيم العظيم!"
نظر إليها عبد الله في إشفاق، وسألها:
- هل رأيت أنت الحلم الذي رأيته أنا؟
أجابت في اقتضاب وحزن:
- لا.. لم أره.
قال لها في ابتسامة تحاول أن تستعيد حياتها:
- إذن.. لماذا لا تطلبين مني أن أقصه عليك؟
قالت: عرفته.
- كيف؟
- كنت تسبح في الفضاء، كنت تطير، وكان يطير معك حسن البنا وسيد قطب.
قال:
- كان الإمام الشهيد عن يميني، والأستاذ الشهيد عن شمالي.. كنا ثلاثة أطيار عجيبة تسبح في السماء، بين الكواكب والنجوم..
سألته أم محمد:
- هل تحدثت معهما؟
- ما كنت لأجرؤ على الحديث مع هذين الشهيدين العظيمين.. كانا يتحدثان عن مستقبل الأمة الإسلامية، وعن العقبات التي تعترضها، وكنت أصغي إليهما، أنظر إلى يميني إذا تحدث الإمام، وأنظر إلى شمالي إذا تحدث الأستاذ، وهكذا إلى أن أيقظني المنبه لصلاة التهجد.
مسحت أم محمد دموعها، وأمسكت يده بكلتا يديها، وهي تقول:
- قم إلى سريرك يا حبيبي.
ونام الجسد، وانطلقت الروح بعد دقائق، لتسبح مع أرواح الإمامين الجليلين، في الفردوس الأعلى.