أنا له

أنا له

مصطفى الصالح

محمد واحمد ابنا خالة،  وفي نفس عمر الورود، ولدا في قرية من قرى فلسطين في السبعينات من القرن الماضي.

في عام خمسة وثمانين وتسعماية والف كانا شابين يافعين اسمرين ناضجين

تعرفت على محمد اثناء دراستي الجامعية، اما احمد فلم اقابله وليتني...

طفولتهما لم تكن كاي طفولة فقد مضت بسرعة البرق قبل ان يستمتعا بها ويلهوا كبقية الاطفال- ذوو الافق المحدود والاحلام الوردية- في العالم

ولكن الطفل في فلسطين يشيخ قبل شيوخ اي بلد؛ لانه مجبور على النضج مبكرا ليستقبل امانة الجيل السابق الذي تفرق معظمه بين القبور والهجرة والمعتقلات.

يقول محمد:

في المرحلة الابتدائية كنا نشعر باوضاعنا، ومع بداية المرحلة الاعدادية ( المتوسطة ) بدانا نفهم ما يدور حولنا، بدانا نعرف لماذا يقوم هذا المحتل اليهودي الغربي الاجنبي باغلاق الطرقات الى المدارس واماكن العمل والمزارع، ولماذا يقومون بمطاردتنا

لماذا يقومون بمطاردتنا في الشوارع والازقة؟

لماذا يجبروننا على المرور على المرور من بعض الطرق فقط بينما بقية الشوارع ليس فيها مشكلة؟ مما يضطرنا معظم الوقت الى الدوران خلف الحواجز من خلال التلال والوديان والمزارع من اجل الوصول الى مقاصدنا

اليست هذه بلادنا؟ اليست هذه ارضنا؟

من هم هؤلاء الغرباء الذين يرطنون بكلام غير مفهوم مخلوط بين العبرية واللغات الغربية ، وقليل من العربية؟

ذات يوم في بداية المرحلة الثانوية، قرر احمد ان يذهب الى المدرسة من شارع اغلقه اليهود كي لا يتاخر

-      لماذا يا احمد؟ دعنا نمر عبر المزارع والوديان كالعادة حتى وان تاخرنا قليلا

-  هذا ليس عدلا، المدرسة تبعد عنا اقل من مائة متر ثم نقوم بالدوران لساعات من اجل الوصول اليها! أيريدوننا ان نصل الى المدرسة متاخرين متعبين فلا نفهم شيئا ونعود بنفس الطريقة، الى متى سنعيش مثل حمار الرحى نظل ندور مكاننا في حلقة مفرغة؟

-      الفرج من عند الله قريب ان شاء الله لكن هيا نذهب والا سنتاخر

-      اذهب انت ان اردت اما انا فساجرب حظي

فسرت مسرعا كي لا اتاخر وكي لا يصل قبلي، فوصلت المدرسة فلم اجده، انتظرت الى نهاية الدوام فلم يحضر فقلقت .

عدت الى المنزل كالعادة وبحثت عنه فلم اجده فتساءلت: اين هو يا ترى؟

جمعت العائلة واخبرتهم القصة فقال ابوه : لا بد انهم اعتقلوه فلنذهب لنستفسر

ذهبنا الى الحاجز ( ويسمونه بالعبرية  محسوم ) فاخبرونا انهم لم يروه وانكروا قدومه اليهم، ولما اخبرتهم اني رايته يتقدم اليهم قال احدهم ساخرا مظهرا ابتسامة صفراء شامتة : ربما غير رايه وذهب الى السينما او الملاهي او .. او ربما سكر ونام بين المزارع من الخوف

فقلت غاضبا: هو لا يسكر ولا يدخن ولا يلعب القمار

فصرخوا فينا ان اذهبو والا احتجزناكم فرجعنا الى بيوتنا

مضت ايام على هذه الحال وانا اذهب الى المدرسة واعود ولا اراه

وامه تسكب دموعها يوميا، وكلما راتني، وقد استبد القلق بابيه فلا يدري ماذا يفعل

سالنا في المستشفيات؛ لم يره احد

ذهبنا الى كافة مراكز الشرطة؛ لم يره احد

فتشنا المزارع والضيع فلم نجده

فتشنا كل مكان؛ لم يره احد !

لم يره احد ! لم يره احد !

ما هذا؟ هل من المعقول انه لم يره احد؟

شاب طويل عريض وسيم لا يمكن ان يختفي بهذه السهولة!

من غير المعقول ان يكون ( فص ملح وذاب )!

وذات مساء ونحن مجتمعون في البيت، بعد يوم طويل لم ينته من البحث المرهق المضني، دخل علينا احد اقربائنا و كان مسجونا في سجن النقب وافرج عنه اليوم، لم يذهب الى منزله بل جاء الينا فور دخوله القرية، فدخل وسلم بسرعة واللهفة تسيطر عليه رافضا الجلوس فحذرنا وانتبهنا وقلنا لعله خير  فقال:

-                  ابنكم احمد

-                  قلنا جميعا ما باله هل رايته اين هو؟

-                  في سجن النقب

-                  كيف ومتى ومن ارسله وماذا يفعل هناك؟

 وبدانا نحاصرة بعشرات الاسئلة والكل متشوق متلهف لان يسمع خبرا

-                  دعوني التقط انفاسي واسترح قليلا ثم اخبركم

هدأ روعنا قليلا بعد ان عرفنا انه حي يرزق واين هو، فاحضرنا الشاي وتكلم فقال:

لقد لمحت شابا اظنه احمد مع مجموعة من الشبان ادخلوهم بسرعة الى المسلخ، وبداوا بجلدهم وضربهم ضربا مبرحا طوال الليل حتى الصباح، لم اجتمع به لكني تاكدت من احد الشباب الذين كانوا معه ونزل في زنزانتي ساعة تجهزي للمغادرة من اجل الخروج، فنقلوني بين عدة مراكز امنية بضعة ايام حتى وصلت الى القرية فاذهبو غدا مبكرين اليه

ومع اذان الفجر كنا جاهزين للمغادرة فصلينا وانطلقنا

في البداية انكروا وجوده ولكن، مع اصرارنا تمكنا من اثبات وجوده عندهم، فطلبنا رؤيته فرفضوا حتى تنتهي محاكمته

فقلنا باي تهمة فقالوا: الانتماء الى خلية تخريبية ورشق قوات جيش الدفاع بالحجارة وعدم الانصياع للاوامر

فقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل

تمت المحاكمة في الايام التالية ولم تثبت ادانته باي من التهم الموجهة اليه، الا انهم قرروا حبسه لمدة شهر

وعندما خرج استقبلته وقلت له: هل ترى الى ما اوصلك اليه عنادك؟ اخبرني ماذا حصل بالضبط

فقال: انا الان اكثر عنادا، اما بالنسبة لما حصل؛ فقد ترددت في البداية ثم تجرات وتقدمت اليهم طالبا المرور فرفضوا، فاخبرتهم ان المدرسة تبعد خطوات ويجب ان الحق الدرس فرفضوا بشراسة، فدارت مشادة كلامية انهالوا علي ضربا بعدها ثم اقتادوني الى عدة مراكزامنية حتى وصلت الى سجن النقب، وفي كل مركز كنت آخذ نصيبي من الضرب والاهانة. دعنا من هذا الكلام الان، اذ يجب ان اعوض ما فاتني من دروس، فقد قمت بمراجعتها في السجن وساذهب غدا الى المدرسة من اجل الامتحانات

فقلت: ابشرك لقد ازالوا الحاجز من شارعنا ولكن مع الاسف وضعوه في الشارع المقابل

فرد قائلا: كنت اتمنى ان تزول كل الحواجز ولكن فرج الله قريب باذن الله

ومضت سنون الثانوية ونحن نكبر ويكبر معنا وفينا الالم حتى كانه شجرة نسقيها ونتعهدها،

وكبرت العزة والنخوة والحقد على يهود في صدر احمد حتى اصبح لا يطيق رؤية احدهم.

كم كنا نخرج سوية الى المدرسة وفي الطريق تتغير البوصلة؛ فنتوجه لرشق جنود الصهاينة بالحجارة لانهم اغلقوا شارعا او فرضوا حظر التجوال من اجل البحث عن احد المناضلين

وادمنّا على هذا العمل حتى لم نعد نخشاهم ابدا، والجيل القادم اكثر منا جراة؛ اذ يقف احدهم في منتصف الطريق راشقا اليات ودبابات الصهاينة بالحجارة، ومنهم من يركب ظهر الدبابة حارقا محركها بقنابل ( المولوتوف )، ولولا فرق العدة والعتاد لارحنا العالم من شرورهم بعد ان نهزمهم ونلقيهم في مزبلة التاريخ.

وذات يوم، وبعد ان حصلنا على شهادة الثانوية العامة، قام اليهود بتطويق القرية وفرض حظر التجوال، فاغلقوا المحلات والدكاكين والمخابز والمدارس من اجل البحث عن احد المجاهدين الكبار،  وبداوا يتحرشون بالنساء والاطفال وبكل من يعثروا عليه ماشيا لحاجته.

ذلك اليوم كان ساعة الصفر بالنسبة لاحمد

بدأ الناس بالغليان والتظاهر، وقام الشبان باطلاق العنان لحجارتهم المتفجرة، فالقوها بلا خوف ولا وجل على الصهاينة، وملأوا الشوارع بالحجارة واحرقوا فيها الاطارات لعرقلة تقدمهم من اجل اتاحة الفرصة للمجاهد للهرب الى مكان آمن.

 وهنا كان احمد على ميعاد مع فجر جديد فجمع اقرانه، وبدا ينظمهم افضل تنظيم واحضروا ما يكفي من ذخيرة الحجارة لرجم اليهود،

وتاهب جنود الاحتلال للمواجهة؛ فاحتلوا اسطح المنازل واغلقوا الطرقات وتمركزوا في الاماكن الاستراتيجية، وبداوا باطلاق قذائف الدخان على الاطفال والشبان ليتفرقوا،

 ولكن هيهات فبعضهم او احدهم على الاقل على ميعاد مع ربه ولن يتحركوا قبل ان يفي بوعده.

فاغتاظ اليهود فاطلقوا الرصاص الحي والمطاطي فلم يتفرقوا، وامتلأ الجو بدخان قنابل الغاز ورائحة ودخان الاطارات المشتعلة وصرير الرصاص وازيز الحجارة.

القيت في ذلك اليوم،حجارة بعدد نجوم السماء على ابناء القردة والخنازير، فقنصت عددا منهم.

كان الحجر يخرج من مقلاع الفلسطيني كالشهاب منطلقا من نجم الى جسد الصهيوني الغادر فيصيبه او ينفجر قربه فيظن المحتل ان رصاصا اطلق عليه فيبدأون باطلاق اسلحتهم الرشاشة عشوائيا من الرعب.

وكان هناك يهودي متمترس في موقع ممتاز ويجب تحريكه ولو لفترة وجيزة، حتى يتمكن المجاهد من الخروج الى مكان اخر، وطلبوا احدا ليقوم بهذه المهمة،

فقال احمد: أنا له

فاخبر اقرانه بخطته، فبداوا الاقتراب من جهة اليمين، حتى اذا رآهم مجموعة وقف على رجليه وبدا باطلاق النار عليهم، فتراجعوا دون ان يصاب احدهم باذى، في هذه الاثناء كان احمد قد وقف في منتصف الشارع مواجها لليهودي وبيده حجر ناري كان قد انتقاه بعناية فائقة،  ووزنه وهزه حتى اذا رضي عنه جهز نفسه ومد ذراعه ليطلقه، انتبه له اليهودي لكن الوقت كان متاخرا ، اذ استقر الحجر في عينه ليقتلعها من مكانها ويهشم وجهه  فيبدا بالصراخ والعويل

وهنا يقوم افراد المفرزة اليهودية باطلاق رصاصهم كالمطر المجنون صوب احمد حتى صار جسده كالغربال، وهو واقف صامد كالطود لا يتحرك وهم مستغربون متعجبون من هذا العملاق الذي لا يهتز ولم يقع على الارض رغم هذا القصف

نظر احمد حوله

قال

اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله

ابتسم ابتسامة ساحرة

اغمض عينيه

ثم ارتقى الى ربه

رحمه الله وجعل الجنة مثواة