صابر
مصطفى الصالح
كان والدي – يرحمه الله – يذبح اضحية كل عيد اضحى، وغالبا ما تكون تيسا او ماعزا حسب المتوفر.
ذات يوم وقبل رمضان باشهر، جاء بجدي صغير صغير جميل نظيف لونه زاهي يتحرك كالظبي رشيق جدا، ففرحنا به كثيرا، وجلسنا الساعات الطوال نراقبه ونلاعبه ونقدم له ما توفر في المنزل من خضروات كالخس والبندورة وغيرها
كانت امي تغضب كثيرا وتقول هل نحن مجبورون على العناية به وتنظيفه وتنظيف مكانه هذا عدا عن رائحته الكريهة ، لو ابقيته عند صاحبه وتحضره قبل العيد بيوم او يومين!
فيجيبها ابي: دعي الاولاد يفرحون ويلعبون ويلهون معه وهكذا ترتاحين من ازعاجهم في المنزل، وهكذا يكون ثمنه ارخص؛ لاننا لو حاولنا شراءه في العيد فلن نستطيع دفع ثمنه، ثم ان لدينا ( حاكورة ) فدعيه هناك ولا تهتمي لامره
وكيف لا اهتم لامره و.....
وياخذ جدالهم بعض الوقت، وفي النهاية تقتنع امي على مضض فهي مغلوبة على امرها، وقد اصبح الجدي في المنزل ولا مجال لارجاعه.
اما نحن فنطير فرحا بهذه النهاية السعيدة، فنتوجه الى الجدي ونبدا بملاعبته ومداعبته، واحضار ما لذ وطاب من الخضار له، سواء من بقايا سوق الخضار او من التي يحضرها والدي معه من السوق كل مساء، وان تعذر نسرق من ثلاجة المنزل او من المطبخ ولكن الويل لنا ان راتنا امنا.
في الايام التالية، ناخذ الجدي الى الحدائق والمزارع القريبة للتنزه والرعي، وكنا اذا ابتعد يلحق به احدنا فيعيده، وكان كثير التجوال والهرب فتعبنا من متابعته، فقررنا ان نطلق عليه اسما نناديه به- كما الحال مع الكلاب ما ان يناديها صاحبها حتى تاتي راكضة- وكنت جربت ذلك عندما ربيت جروا صغيرا لعدة ايام في الحاكورة فنجح، ثم ان امي تخلصت منه لكثرة نباحه وازعاجه، وفعلا اقترح اخواني ان ننادبه صابرا، ولما اطلقناه فترة وابتعد قليلا ناديناه: صابر! فلم يرد
صاااااابر! وبصوت عال وطويل لم يرد ولم يحضر ايضا،
ما فائدة الاسم لحيوان لا يعرف معناه ولا يرد؟
فقررنا ان نجتمع به ونعلمه باسمه، فربما هو لا يعرف اسمه
فكرة جيدة
فاحضرناه نحن الثلاثة واجلسناه امامنا على الارض وبدانا بتلقينه اسمه :
انت صابر اسمك صابر، عندما ننادي عليك باسمك صابر عليك ان تحضر فورا انت صابر يا صابر
وهو جالس يستمع لا يتحرك فهو مشغول بهضم كمية العشب التي امامه
ولما اعتقدنا انه فهم اطلقناه، فقام يركض ليلتهم ما تركه عندما نادينا عليه
وقفنا على مقربة منه ناديناه: صابر لم يرد
فغضب اخي الصغير وصاح به بصوت عال وطويل: صاااااااااااابر! فانتبه ولم يتحرك، فاصبنا بخيبة امل، فاتفقنا اخيرا ان نعلمه اسمه بطريقة اخرى، فاخذناه الى مكان ليس فيه عشب ولا خضرة، وتركناه فترة حتى جاع وصار يصرخ: مااااااء ، مااااااااء
يا لهذا الحيوان الغبي انه يعرف الماء ولا يعرف اسمه!
اخذنا كل واحد بيده ضمة عشب او خس وبدانا نلوح له بها
صابر هل تريد ماءا ام طعاما؟
هل تريد ان تاكل؟ اذن انطق اسمك، ان اسمك صابر
هل تريد ان تاكل يا صابر؟
وهو يحاول التفلت من عقاله ليلتهم الطعام الذي بايدينا
فتقدمنا منه واحدا واحدا، وصرنا نطعمه ثم نسحب الطعام ونقول: صابر! كل ياصابر، توقف عن الاكل يا صابر
وبعد شهر من التعليم المتواصل تمكنا من اقناع صابر باسمه
فصار يلتفت ويركض نحونا كلما ناديناه، وينتظر عودتنا من المدرسة بفارغ الصبر.
واصبح هو شغلنا الشاغل، ولعبتنا الوحدى فتعلقنا به وتعلق بنا واحبنا واحببناه، حتى وصل بنا الامر ان ننام قربه؛ وذلك لعدم سماح امي بدخوله المنزل، فكانت تدخلنا الى المنزل عنوة
وكبر صابر بسرعة كبيرة حتى صار بطول اصغرنا تقريبا، وكان هذا الصغير يركب عليه احيانا كالحصان ويقوده.
ودخل وقت العيد، وصارت الناس تستعد للذهاب الى عرفة بينما كان استعدادنا لشراء ملابس جديدة للعيد واشترينا.
وكانت ليلة العيد، فسمعنا والدي وخالي يتهامسان فعلمنا انهما ينويان ذبح صابر ويجهزان الجزار الذي سيذبحة، فاقمنا مناحة تلك الليلة وبدانا بالصراخ والعويل: لا تذبحو صابرا، دعوه يعيش، حرام عليكم ان تذبحو هذا الحيوان الجميل! اذا كنتم تريدون لحما نعطيكم غدا عيدياتنا فاشترو بها ما شئتم من اللحم!
وانتصف الليل ونحن نبكي ونرجوا والدنا الا يذبح صابرا، وامي تقول: خلص يكفي عدة اشهر من العنابه وتحمل قرفه، اريحونا منه من اجل الله!
فتوجهنا الى ابي فقال لن اذبحه
اكيد؟
لن اذبحه وسترون ذلك غدا، اذهبو الى النوم الان والصباح رباح.
استيقظنا مبكرين في صباح اليوم التالي، وجلسنا عند صابر- خوفا من ان يغير والدي رأيه- نطعمه ونسقيه ونعيّد عليه،الى ان حان وقت الذهاب الى صلاة العيد فصلينا وعدنا بسرعة.
ثم سلمنا على والدي فعيدنا كل واحد دينار – على غير العادة – ، وعيدنا على امي فعيدتنا هي الاخرى مبلغا محترما وقالت: اذهبو فاشتروا مسدسات وبنادق والعاب واركبو الدراجات والمراجيح لحين تجهيز الفطور بعد ساعة او ساعتين، فخرجنا مبسوطين فرحين واشترينا ولعبنا واختلطنا باقراننا لمدة تقارب الساعتين، وعدنا الى البيت لرؤية صابر ولنريه العابنا الجديدة فيفرح معنا.
دخلنا البيت فقالت امي تعالوا فالفطور جاهز، فلم نلتفت اليها منقادون نحو صابر لكننا لم نجده مكانه! فبدأنا بالتساؤل:
ما هذا؟
اين صابر؟
انه ليس هنا!
امي اين صابر؟
هل ذهب الى مكان ما؟
امي اين صابر؟
وبدانا نحوس في الحاكورة والبيت باحثين عنه، وابي صامت وامي مشغولة بتجهيز الفطور، فجهزته ونادتنا فقلنا: اين صابر!؟
افطرو اولا ثم نقول لكم
كلا، قولي لنا اولا
ذبحه ابوكم
ماذا؟ غير معقول ! ابي وعدنا الا يذبحه ! مستحيل
ركضنا نحو والدي متلهفين:
هل ذبحت صابرا يا ابي؟ الم تعدنا بعدم ذبحه
وانا صادق، فانا لم اذبحه بل الجزار
فاسقط في ايدينا وعلمنا ان ابانا خدعنا
ولم تنتهي احتجاجاتنا على ابي لفترة طويلة، حرم على اثرها احضار اي اضحية الى المنزل
وفقدنا نحن صديقا من اعز الاصدقاء
وانا على فراقك يا صابر لمحزونون