هذا فراق بيني وبينك
منال المغربي
الكنيسة الصغيرة الرابضة فوق إحدى تلال كسروان كانت أوّل ما وقع عليه بصرها وهي تسترق النظر إلى زوجها من بين ثنايا ستارة النافذة، ولكنها أشاحت نظرها عنها بسرعة... وعندما اطمأنت لدخوله إلى موقف السيارات سارعت من فورها إلى التلفاز... لم تَطُل فرحتها، إذ لم تمضِ سوى دقائق معدودات حتى تناهى إلى سمعها صوت زوجها: «نجوى... أين مفاتيح السيارة؟ أظن أني أضعتها».
ما إن لمحته يدخل غرفة المعيشة حتى سارعت بتغيير القناة، ثمّ هرعت إليه كالفأر المذعور قائلة بصوت مرتجف: «سآتيك بها فوراً»...
تناول زوجها جهاز التحكّم عن بُعد وترك لأصبعه حرية التنقّل بين القنوات الفضائية، وازداد ضغطه على الأزرار عنفاً وحدّة عندما وقعت عينه على القناة التي تَخلَّص منها بنفسه، وبدأ صراخه يملأ أرجاء المنزل: «لماذا أعدتِ هذه القناة العجيبة الغريبة؟... ثم أين محطاتي المفضلّة؟ ما الذي يجري في منزلي؟ نجوى... نجووووووووى».
قذف جهاز التحكّم بقوّة باتجاه النافذة فتناثر زجاجها إلى قطع صغيرة... انقضّ بعدها على زوجته يهزّ كتفيها بعنف حتى كاد أن يقتلعهما من مكانهما: «أخبريني الحقيقة... أريد أن أعرف! لست معتوهاً... أتظنين أنني لم ألحظ التغيرات التي طرأت على لباسك وسلوكك وطريقة تفكيرك بعد متابعتك لهذه الفضائيات؟ بل أكثر من ذلك: أتظنين أنني لم ألحظ نفورك مني؟».
فَم زوجها وهو يرغي ويزبد وعيناه اللتان تقدحان شرراً جعلاها تدرك أنْ لا مفرّ من المواجهة، ولكنها خَشِيت عليه من هَوْل الصدمة فأخذت تتساءل بينها وبين نفسها: «.. تُرى، كيف سيستقبل النبأ؟ وكيف ستكون ردّة فعله بعد ذلك»؟
- «ما بكِ... أجيبيني؟ ما الذي يحصل معكِ بحقّ مريم العذراء صارحيني».
اندفع الدم بقوة إلى وجنتيها... كلامه مَحَقَ ما في نفسها من خشية وتردد... لم تعرف من أين واتتها الشجاعة فصاحت به قائلة:
«بحقّ الله عزّ وجل سأخبرك، لقد اعتنقتُ دين الإسلام... وأُعلن أمامك هذه المرة ومستعدّة أن أعلن أمام الجميع أنّه لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله».
كمن أصابته رصاصة في القلب هوى على الكنبة كالقتيل... ولكنها تابعت حديثها دون توقف: «عثرتُ على تلك القناة بمحض الصدفة... حكمة أرادها الله سبحانه وتعالى ليُخرجني بها من الظلمات إلى النور... لقد أعجبني حديث الشيخ... كلماته تلامس الوجدان والعقل... ومن يومها بدأتُ بملاحقة وتتبُّع كل القنوات الفضائية الإسلامية الأخرى...».
توقفتْ لتستعيد أنفاسها التي شعرت بأنها سُلبت منها وهي على دينٍ آخر... ثمّ عادت وأكملت حديثها عسى أن تُفتَح أبوابُ قلبه المغلقة:
«نبيل... كل ما يُقال عن الإسلام غير صحيح... غير صحيح البتة... هو دين عظيم ورائع... لو تتابع إحدى القنوات سيتجلّى لك ذلك بوضوح وسيتبيّن لك صدق كلامي... نبيل هذه الفضائيات هي حجّة علينا عند الربّ... فلا تُعرض عنها».
لم تره بهذه الحالة من الضعف والضياع من قبل... آلمها الشعور أنّ لحظة الفراق قد دنت... فهي تحبّ زوجها كثيراً؛ لطيب معشره وحُسْن معاملته لها ولأولادهما الثلاثة... لم تتصوّر يوماً أن تبتعد عنه... ولكن رفض زوجها أي بحث للتفكير في دينه أو دينها الجديد، لقد أعمته العصبية التي ترّبى عليها باسم الطائفية!
برفق نادته: «نبيل».
- لم يُجِب. كانت عيناه هائمتين في الفراغ؛ أخذ يحدِّث نفسَه كالمجنون: «الآن فهِمتُ كل شيء... رفضها حضور قُدّاس الأحد... طريقة لباسها المحتشمة... تحاشيها الحفلات والتجمّعات المختلطة... مشاجراتنا المستمرة كلما أصررتُ على مشاهدة برامج الخلاعة التي تعجّ بها الفضائيات... أمراً واحداً لم أفهمه ولا أجد له إجابة...».
وكأنها علمت ما يدور برأسه، أجابت: «أنت الآن على غير ديني منذ شهر تقريباً ولا يحل لك معاشرتي...».
- همس بصوت مبحوح: « إذن؟».
- طفرت الدموع من عينيها... لم تستحضر إلا آية من سورة الكهف حرصت منذ أن أسلمت على تلاوتها كل يوم جمعة لتجيبه بها: «هذا فراقُ بيني وبينك».
***
مرّ شهران على هذا الموقف... كم كانت فرحتها شديدة وهي تلحظ بحنان وعطف من الشُّرفة أطفالها الثلاثة يترجلون من سيارة والدهم.. كم كانت تنتظر هذه الإجازة بفارغ الصبر... حمدت الله تعالى أنّ نبيلاً صدق في وعده؛ فهو لم يحرمها من أطفالها...
فتحت لهم الباب قبل أن تقرعه قبضاتهم الصغيرة وسارعت بضمِّهم إلى حضنها بكل شوق... عندما توارت سيارة نبيل عن الأنظار دخلوا جميعاً إلى الشقّة التي أمّنها لها أحد القضاة الشرعيين بعدما طردها أهلها من بيتهم وتنكّروا لها...
تناول الأطفال وجبة الغداء وسارعوا بعدها لمشاهدة التلفاز... أدركت نجوى أنّ أمامها مهمّةً طويلة المدى وشاقة حينما بدأت أسئلتهم واستفساراتهم تنهمر بغزارة عليها كأمطار كانون وهم يتابعون برنامجاً للأطفال يُعرض على إحدى المحطات الفضائية الإسلامية.