ثُمَّ التزمت
جمال المعاند -إسبانيا
- منذ أن شب عن الطوق، وأخذ بإدراك الأشياء من حوله، لا يعرف نفسه إلا أنه فرنسي مولداً ونشأةً، باستثناء بعض الأمور، مثل اسمه وأسماء أخواته، وكلمات تُنطق بلغة يسمعها في البيت، أومن أصدقاء العائلة قلما يعقلها.
وعندما يسأل والديه عنها يُقال له أنها عربية.
أما رتم الحياة داخل البيت فيضارع بيوت أقرانه من الفرنسيين، إلا بعض أصناف الطعام، ويمر بهم شهر متحول الأوقات عبر السنة يدعى رمضان بطقوس خاصة به .
هذا الاختلاف عن صحبه عزاه لأصوله العربية، وغاية ما تفتق عنه ذهنه أنه تراث عربي، ومن نفس المنطق يناقش زملاءه الفرنسيين، كان بعض منهم يرفض أن يتبنى شاب كل ما ألفه من آبائه، وأن التمدن أوجب تغيرات سلوكية جمة، مثل تنظيف الأسنان بالفرشاة ... وأكثر ما تطرحه البنات الفرنسيات من صحويباته قضية سجن بعض الفتيات العربيات أنفسهنّ وجمالهنّ خلف الثياب – الحجاب - كأنهنّ يخفينّ قبحاً...
بينه وبين نفسه كان مقتنعاً بفكرة رفض ما كان عليه الآباء ، إلا أن المكابرة تدفعه أحياناً للدفاع بحماس عن التراث العربي .
في دخيلته صراع لا يحسم أبداً فلا هو فرنسي صرف، رغم سلوكه الذي لا يفترق بشيء عن أترابه في المدرسة والنادي، غير أن مسألة الأسماء وغيرها من التراث، ودّ لو تخلص منها ؟
كانت للأسرة زيارات سنوية لبلدين عربيين، ففي كل عام يزورون بلداً منهما، فأمه تونسية أما أبوه فهو جزائري، فهم لذلك يَفِدون لأقارب أمه عاماً ، وآخر لأقارب أبيه.
هناك في هذين البلدين يرى التراث أكثر تعمّقاً ...
ثمة أذان من مساجد لها مآذن تصدح به خمس مرات في اليوم، وأجداده يحافظون على شيء يسمونه الصلاة، أما أبواه فلم يكونا يتجهان إلى القبلة، حدثته نفسه ربما الكبار في السن أكثر تعلقاً بالتراث بحكم ما درجوا عليه.
وما واجه مشكلة في التواصل مع أترابه لا في تونس ولا في الجزائر فهم ينطقون الفرنسية لغته، بل حتى الأطفال الذين هم دون سن المدرسة يستطيعون التلفظ بكلمات فرنسية، مما زاد في قناعاته أن الفرنسية قمة التمدن، والعربية آيلة للانقراض هي وتراثها، وكانت زياراته لأقربائه تحمل مفارقة يثمنها في خانة الإيجابيات، وهي كثرة الأقارب وعاداتهم في إكرام الضيوف، أُلفة تُشعره بدفء يسري داخل نفسه، بعدما انكمشت من صقيع فتور العلاقات في فرنسة، والتي فيها لايطرق بابهم ولايزرون أحداً إلا لماماً.
وفي فرنسة وهي من البلدان التي تقدس الحرية الفردية يتعارف الناس على المرحلة الثانوية أو مايدعونها مرحلة المراهقة ، فالإنسان يُجرب أي شيء فيها بلا قيود، إلا قيداً واحداً هو عدم إلحاق ضرر بالآخرين، فاندمج مع شلته، يتبارون في امتلاك قلوب العديد من الفتيات ، ومن يحتسي خمراً أكثر، ويتعاطى من المخدرات ما تصرع فيلاً ، وما إلى ذلك من الملذات.. كانت الشهور التي انغمس فيها حتى شحمة أذنيه استثناءاً في حياته ، هي أشبه بحالة السكر أوالتخدير فما إن يفيق ويعود إليه وعيه، حتى يتجرع جرعة تعود به حيث كان ، بدأت دراسته بالتراجع وعلاقاته مع من حوله، إما لا مبالاة أو عصبية وتشنج في أوقات الصحو.
ويتدخل القدر..
كان من عادته أن يذهب إلى مقاهي النت مع بعض الرفقة يزجون ساعات طوالاً فيما يسمى الشات، دخل المحل داعيةً - وَفَدَ إلى فرنسة بحثاً عن لقمة العيش- جاء يهاتف أهله، متمكن من اللغة الفرنسية، كانت صدفة خير من ألف ميعاد ، ومما اعتاده المسلمون في الغرب ما أن يرون داعية حتى يمطرونه بأسئلة شرعية وسياسية .... وما أن انتهى ذلكم الداعية من مكالمته، حتى انهمرت عليه أسئلة الحضور ودار النقاش، وفي الغرب قلما يستفتي مسلم بل الكل لديه نتف من المعلومات يريد أن يتحدث بها، والكلام بالعربية والفرنسية ، والقضايا بين أخذ وجذب، والداعية لسانه لسائله، وعينه على الشباب القابعين خلف شاشات الحاسوب، استهوى النقاش صاحبنا، فالمراهق يشتري تلك النقاشات ولو بالمال، كان الداعية رجل مكيث، واسع الصدر، يترك المتسرع يفضي بما شاء، وهو يبتسم، واثقاً من دينه ومعلوماته، ومحسن الظن بمولاه أنه سيعينه، فلا يعجل على متكلم، ثم يبدأ بالحديث برفع معنويات القائل والثناء على فكره، وحرصه على أمور دينه، ويحاول استخدام نفس الألفاظ التي طرحت وعندما يريد إضافة شيء يورد آية أو حديث، تُنسي المتحدث إصراره ، كان رجلاً والرجال قليل، وصاحبنا يرقب الأمر وقد أدار ظهره للحاسوب.
كثيرة هي الآيات التي استشهد بها الداعية، وتعجب من إذعان الناس لها، تَذَكَّر أن لديهم مصحفاً في البيت، لكنه مصلوباً بقماش مزخرف على الحائط، وقيل له: أنه مكتوب بالعربية وهو لا يحسن منها شيئاً يُذكر.
دفعته مراهقته للمشاركة في الحديث، فطلب من الجميع الكلام بالفرنسية . هنا التفت إليه الداعية بكله وسأله عن جنسيته فأخبره أنه فرنسي، ظنه بداية يريد الاستفسار عن الإسلام ، تدخل أحد الحضور وأخبره أن ثمة نسخة للمصحف بالفرنسية ، صحح له الداعية أن النسخ الفرنسية وما شاكلها من اللغات هي تراجم للمعاني فقط، هنا اشرأبت المراهقة فما من فرصة تسنح لمراهق ليتحدث أو يفعل أمراً يثبت ذاته إلا ويهتبلها، فأدلى بدلوه أن الترجمات يجب أن تعتمد العلم الحديث، فليس كل التراث العربي صحيح، فبهت الحضور وأخذوا بالرد حول قدسية القرآن
والداعية صامت ينتظر سكون سورة غضب المسلمين ، فلما هدأت عاصفة النقاش قال : أولا ً ما من حقيقة علمية ثبتت علمياً تعارض كلمة وردت في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة وأخذ بسرد واسهاب للإعجاز العلمي، وَجَمَ الحضور، والداعية يتحدث بطلاقة فرنسية، ومع ذكره للآيات والأحاديث النبوية بالعربية، يعرج على المعنى فرنسياً ، سأله صاحبنا عن مواقع في النت يكتب فيها هذا الكلام فتقدم إلى حاسوبه وكتب كلمة إعجاز علمي فاستجاب الحاسوب بكم كثير من أسماء المواقع، ولم يغفل ذلكم الداعية عن استثمار تلك السانحة في الإفاضة عند قضية الإيمان بالله فهي المسألة الأولى في الدعوة غرباً ، ومن ثم عرَّج على قضية النبوات وحاجة البشرية لها وصولاً لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، وأنهى كلام بذكر الحقيقة التي يحاول الناس تغيبها من حياتهم، ألا وهي الموت وما بعد الموت، إلى فض الحساب .
ومع أن أمر الموت مُشاهد يومياً ، فإنه في الغرب من الخفاء ما يكاد يكون استثناءاً من إيقاع الحياة ، سمع صاحبنا كلاماً لأول مرة يطرق مسامعه عن حياة بعد الموت ، كان كل ما تعلمه أن الإنسان كائن بيولوجي له دورة حياة، شأنه شأن أي كائن حي فالموت حسب معلوماته نهاية المطاف ولا شيء بعده ، لذلك يتهافت الناس على الحصول على أكبر قدر ممكن من متع الحياة ، انفض المجلس وعاد إلى بيته ، لقد سمع أموراً زلزلة مفاهيمه وبدهياته .
أكل لفافة طعام وهو جالس على حاسوبه المنزلي، دخل مواقع الإعجاز العلمي، تمنى لو كان الداعية أساء فهم اللغة الفرنسية، لكنه فوجئ أن كلامه صحيح ، اقتطع أجزاءاً مما قيل من الحقائق العلمية ، ودخل بها إلى المواقع العلمية الفرنسية الرصينة فما زادت على المواقع الإسلامية إلا وقفها عند .... وهذه باتت حقيقة علمية ، ترك الحاسوب وذهب إلى فراشه، لكن قضية ما بعد الموت طردت النعاس عن جفنيه حتى الصباح للمرة الأولى منذ أن أدمن تعاطي الكحول والمخدرات والتي لم تخطر بباله وقتئذ .
في المدرسة ذهب إلى أستاذ العلوم ليسأله عن بعض الحقائق العلمية، فأجابه عنها وتأكد أن فهمه لها صحيح .
وانقضت أسابيع يبحث وينقب عن الحقائق عبر مواقع الإعجاز، ومما لفت نظره أن هذه المواقع تمتلك تسجيلات لفرنسيين أسلموا، وصل إلى قناعة أنه ضال، وعليه البحث عن الاتجاه الصحيح ...
سأل عن الداعية وحصل على هاتفه، وبعد جلسات معه اكتشف أنه مسلم بالهوية كما يقال، فقرر الالتزام .