ورش العمل الشيطانية

ورش العمل الشيطانية

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

(1)محاضرة إبليس

منذ أن كنت طفلاً لا أحب العشاء الثقيل، وعندما كبرت وأقمت في أوربة فأنا عادةً ما أهمل وجبة العشاء. مع أن العرب تقول ترك العشاء مهرمة ، وفي أوربة معظم الناس يعملون بين أطراف النهار ، فالولائم تقام ليلاً ، وعلى مائدة أحد الإخوة اجتهدت امرأته بأنواع الكبب ، كانت تلك ليلة ليلاء .

عدت بعدها إلى البيت وصليت العشاء ، فألجمني الكسل بلجامه وقادني بزمامه حتى تركت السنة البعدية والوتر، متعللاً سأنهض قبل طلوع الفجر ، وهكذا سولت لي نفسي وأنا أجر خطى أثقلتها الكبة لأصِلَ إلى السرير ، وما إن وضعت رأسي على المخدة وأخذت بقراءة ورد النوم ، فلم أدر ما قلت ، و تسلل الكرى إلي ، غير أني رأيت مياه وفواكه ثم انقلب المشهد إلى ليلة أوربية مطيرة باردة ، أمشي في أزقة خفتت فيها مصابيح الشارع ، فشعرت أنها تقلصت ربما من البرد ، وسمعت صوتاً يقول: وصلنا . يجب أن نحضر المحاضرة ، ثم تراءى لي شبحان هم من القصر بشكل لافت لكن طبيعة الصوت وخشونته تدل على البلوغ ، فقلت في نفسي أنا معني بالكتابة ، وأي محاضرة، هي إضافة لحصيلتي ، وعادتي أن لا أفوت مثل هذه الفرص ومننتني نفسي ، وربما كان المكان دافئاً فأصطلي قليلاً وأتمتع بما يُطرح من أفكار ، فتبعت الشبحين فإذا بهما ينزلان درجاً أسفل الشارع ، قاد إلى دهليز ثم أفضى إلى فسحة، لا تقل ظلاماًً عما سبق ، وبدا الشارع بالنسبة لها نهاراً وتنبعث منه رائحة نتنه ، قلت : من يطلب الورد عليه تحمل الشوك ، فجلست بالقرب من الشبحين ، ودخل اثنان واعتليا المنصة واستقبلهما الحضور بالمكاء والتصدية ، ثم تحدث أحدهما وقال : أيها الحفل الكريم أرحب باسمي وباسمكم بضيفنا الكبير أستاذنا وقدوتنا والأب الأكبر ، اعلموا ، سيداتي وسادتي: أنكم محظوظون بأن تتاح لكم فرصة سماع كبيرنا وهو يدلي لكم بخبرة عَزّ مثيلها وتجاوز عمرها آلاف السنين، كما أن عطوفته ، سيفسح المجال لأي تساؤلات ، فهمس الكبير في أذن المتحدث فضحك، وقال: ما هذا التواضع ؟ ، قال لي: صحح تساؤلات إلى مداخلات ، ولن أطيل عليكم ، فأنا أعلم مقدار تلهفكم . فتفضل سيدي الوالد.

حاولت أن أركز النظر في والد هذا، فإذا به قبيح، له قرون، وزاد من اشمئزازي نتن المكان.

وقال : أبنائي الأعزاء إخواني الأفاضل يا أصحاب الوجوه التي زينتها الظلمة و سقاها اللؤم وأبرز تقاسيمها الجميلة الحقد أحييكم وأشد على أيديكم وأنتم تمثلون كوادر معسكر وجد منذ الأزل و حتى قيام الساعة آخذين على عواتقكم الكريمة ملاطفة كل نفس ، وبذل قصارى جهدكم لتكونون مرشدين لها إلى كل متعة وافرة خصوصًا بني آدم وأحفاده لا نريد لهم إلا الخير ولا ندلهم إلا على اللذة والمتعة قبل أن يأكلهم الدهر ويفنى شبابهم وهم على ضعف عقولهم يبادلوننا العداء نحن نبذل المستطاع من جهدنا ليتمتعوا وليقربوا منا إلى مساحات الحرية وأن تعمل أجهزتهم الجسمية بطاقتها القصوى من غير قيود فإذا رأى أحدهم امرأة جميلة أو إحداهن رجلاً وسيماً أليس من الإجحاف أن لا يتم التمتع ولو بنظرة ، وإذا تاقت نفس أحدهم أو إحداهن إلى طعام أو شراب أليس من الغبن حُرِمها بحجة الحلال والحرام ، إن هؤلاء المغفلين أصحاب قسمة ضيزى بين العقل والنفس فما العقل إلا عضو صغير يريد له حكماؤهم وعلماؤهم أن يتحكم بالجوارح ورغبات النفس .. دعونا نساعدهم وأضع خبرتي من أبيهم آدم إلى الآن تحت أرجلكم أقصد بين أيديكم، سأتكلم بالعلم وأستميح عذراً من كان منكم لا يلم بعلم وظائف الأعضاء البشرية ، ثم التفت إلى الجالس بجانبه وقال: يقولون علم الفسيولوجي أليس كذلك ؟ ضحك الذي بجانبه وهز رأسه وقرنيه موافقاً ، وأكمل إبليس : بيد أنه لابد من مقدمة ، قال: من حلفت بعزته كفاحاً ، ثم سعل وأخذ كوب الماء الذي أمامه ، سمعت جاري خلالها يقول لصاحبه ماذا يقصد ؟ قال: الله. قال: أو يعرف كبيرنا الله ؟ قال أكثر من بعض بني آدم . وأكمل إبليس قائلاً: [ إن كيد الشيطان كان ضعيفا].

ولابد من وقفة مع كلمة كيد من حيث المنشأ اللغوي ودلالته فالكيد هو: الأمر الذي يدبر في الخفاء لضعف صاحبه عن المواجهة وخلاصة الدلالة هو الحيلة السيئة. لكن علينا معشر الشياطين تحويل هذا الضعف إلى قوة بالتمويه والخداع حتى لا يتفطن الناس إلى ذلك فأنتم تعلمون أن بضاعتنا الرئيسة هي الوسوسة فلا نملك سلاحاً أفتك منها - و تفيد التكرار وأنا اسميه الإصرار - إلا إذا تمكنا من الخصم ، ونسب إلينا الناس العديد من أنواع الجند فعلى كوادرنا إدراك أن قيادة أركان جيوشنا كلها كلمتين بل حرفين هما : الفريق الركن " لو " والعماد الركن "سوف " وتبنى استراتجياتنا على: ما هو وكيف ، بهم يتم التخطيط وهم من يمنحون الوقت ويرسمون الأهداف من ثم تتحرك مشاة الغريزة ، وآليات الشهوة ، وصواريخ النظر.. فلا نخدع ببيارق تتحرك وننسى من يسبب ويتسبب .

 ولنبدأ بالجسم الطيني للبشر وندل على أماكن الثغور وكلكم يعرفها ومع هذه الثغور فإن لنا داخل الجسم الطيني حليفة نقيس الأمر بشهواتها وملذاتها فحاولوا جهدكم أن تفتحوا لها منافذ عبر خرق هذه الثغور وهي تتكفل بالباقي.

 فأول الثغور العين وهي تستطيع الرؤية من مسافات بعيدة ويخطئ من يظن أنه يستطيع النفوذ إليها مباشرة ، وإذا تمكن شيطان فهذا لا يعني قاعدة بل الأصول المتبعة هي دعوتها أولاً للغفلة البريئة ، وهي أصل العمل الشيطاني ، ثم تدرجوا معها إلى المباح من فرجة أو منظر مُلهي ومن ثم الوصول إلى استحسان الأشياء ، فإني وجدت أسهل شيء على بني آدم النظر ، لذلك نسبوا إلى شخصي أن النظرة سهم من سهامي ، وما دروا الجهود بعد ذلك فبإصرار الشيطان وعزيمته تبذر بذرة الشهوة في قلب ابن آدم ثم تسقى بماء الأمنية وتتعهد بالتذكير لأن الإنسان سُمّيَ إنسان من النسيان حتى تقوى وتصبح عزيمة ، ومن ثم ينقض لقضاء وطره بعدما يفلت من زمام ما يسمونه العقل ، وقد يتبادر إلى ذهن أحدكم أن مبدأ غض البصر عرف بين الناس فالكافر ربما استحى من تتابع النظرات فكيف بمن يدعون أنهم مؤمنين؟ أقول تعلموا الإصرار والشيطان الذكي هو من يستخدم أساليب غير مطروقة ، فهونوا عليهم الأمر ، وسوسوا لهم ، إنما تتأملون بديع صنعة الباري ، فلم تخلق العينان سدى ، وما خلق هذا الجمال ليُهمل.

 ثم صمت برهة وأشار إلى الأذن وقال هذا ثغر يشكل عقبة كأداء أمام عملنا فغالباً ما تدخل منه كلمات تعضد العقل، وكم من بني آدم من يمتلك موهبة في الكلام يتخير لها أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب، فعليكم شغل هذا الثغر أولاً بما لا طائل من ورائه فإن غلبتم فلا تيأسوا فعليكم بالوسوسة والخواطر ، حتى يُحال دون فهمه وتدبره ، وستجدون حليفتنا النفس تتململ فهو حمل ثقيل لا تستقل به ، فالأشغال داء الكلام الذي يحبه العقل ويرضاه فذكروه بشيء يحبه ، فإن أعطى من نفسه فزجوا بأخوات هذا الشيء ، ولن أقف معكم طويلاً ، فخلاصة الأمر أن الأذن طريق غالباً ذو اتجاه واحد إلى العقل فكلما استطعتم حرفه ولو قليلاً فهو يصل إلى النفس . ثم أشار إلى صورة إنسان وتحديداً إلى لسان خارج من الفم وقال : وصلنا للثغر الأعظم اعلموا أنه باب لو فتح لدخل جندنا بكل يسر وسهولة ولخرق هذا الثغر أمران لا تبالون بأيهما ظفرتم . أولهما وأولاهما التكلم بالباطل كما يسميه ابن آدم ، وهو في الحقيقة يجد له متعة وأعجب منه واستخدامه للمصطلحات إذ لو تكلم أحد بغياب أحد سماه غيبة حتى وإن كان صحيحاً ما يقول ، أما إذا تحدث متحدث على سبيل المبالغة بما ليس فيه واستطرد بالنعت فهو بهتان يريد بني آدم إضافة القدسية على نفسه ، ولهذا الثغر( اللسان ) مهمات منها الدفاع عن النفس وهو صراع ولا يخفى أنه أيّاً كان نوعه من الضرورة استخدام المتاح بما فيه نفي كلام، أو إضافة عبارة قد لا يكون لها أساس ، سُمي كذباً ، وأفضل الطرق التي فرضها الواقع وأيدتها التجربة أن كثرة الكلام تساعدنا كثيراً في انجاز مهمتنا لإنقاذ العزيزة النفس . وثاني الأمرين هو السكوت فيقولون: السكوت من ذهب ، وعلينا تحويله لصالحنا بالسكوت عن الحق ، فالساكت عنه هو أخٌ لكم ، وربما كان أنفع من صاحب الكلام الكثير.

 هذه الثغور الأساسية هي من يتحكم بالجوارح من يدين ورجلين وفرج، ولا أريد أن أطيل عليكم في التنظير فأنا أفسح المجال لمداخلاتكم فأنتم تحسنون التصرف.

 فوقف شيطان من ناحية الشمال مبحوح الصوت وقال سيدي الوالد : ركزت في كلامك على الثغور . والعقل أليس لنا فيه شيء؟

قال إبليس : العقل البشري عضو كما أخبرتكم من قبل ، وهو كسائر الأعضاء ، ذو طاقة محددة ، فلا تخافوا منه، ومشكلتنا في النقل بمدلول ما يعتقد أنه وحي وتراكم الخبرة البشرية ، وحتى هؤلاء لا نيأس منه فثمة أساليب لغوية جميلة مثل الشك والظن والحدس هذه الصيغ تمرض الحقيقة غالباً ، فلا تدع العقل يصل لمرحلة اليقين فالإكثار منها أمر مطلوب وممارس واقعيا، وليت ابن آدم استطاع استخدام عقله مثلي ، وامتلك الجرأة اللازمة لذلك فنظر كيف كانت جرأت أبيك وهو يحاول توظيف عقله : [ في موقف لم يتكرر من شهود الكائنات جميعاً ، أمرني ربي أن أسجد لآدم، قارن عقلي بين الأصول فقلت لربي ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) ثم أردفت ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي) وأردت أن أفهم لماذا كرم على من هو خير منه أصلاً ، فقلت ( أنا خير منه ) ] "1" .

 فالعقل إن لم يرفع صاحبه فما فائدة عمله. ثم رفع شيطان آخر يده وقال: سيدي الوالد ما حدثتنا عن الغضب في بني البشر؟. قال: الغضب نار توقد في الأفئدة تدفع العقل لإبطاء عمله ، حتى تتمكن النفس من الثأر لمن أراد التطاول عليها مستخدمة ما تستطيع من وسائل ، لكنه حالة نادرة في بني البشر يكون الإنسان أشبه بوحش ضاري ، تنتفخ أوداجه ويسهل استثارته وأغلب الناس في مثل هذه الحالة يقوده قرينه ، وهو أمر يدركه أي شيطان بالغريزة ،فلا داعي للشرح، لكني أُؤكد أنها فرصة ذهبية ، تختصر على العمل الشيطاني جهوداً كبيرة . ومن وسط الجمع تهدج صوت أنثوي وقالت سيدي الوالد: ماذا عن الحسد ؟ زفر إبليس زفرة كادت أن ترج المكان ، ثم قال : حسناً يقولون لا يخلو جسد من حسد لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه ، هكذا يظن بني آدم وهو في حقيقته ميزة المتفوقين والطامحين ، ويعني التفرد بحيث يبقى بينه وبين من حوله أو أمثاله مسافة خالية فالمتميز لا يقبل بالنجاح العادي بل يرنو إلى العلو ويتطلب الأمر حرق المشابه والعمل على إضعاف إمكاناته لذلك صنفه ابن آدم صفة مذمومة لكنهم بنيتي يمارسونه واقعاً ، والحسد والنجوى والتبذير والإسراف ....الخ ، سأتركه لورش العمل التي ستلتقون بخبراء البرمجة الشيطانية وأساتذة المجال والأخصائيون . وقام شيطان يبدو أنه متقدم في السن فقد اتكأ على جاره ليقف وقال سيد ي الوالد : إن في هذا الجمع الطيب من هو قليل الخبرة مع توقد ذكائه فهم كما تعلمون كوادر معسكرنا الإبليسي وربما سمع بعض منهم بمصطلح التلبيس ، فهلا وضحته لنا ؟ قال إبليس : أنت هنا يا خنزب ، لم أرك منذ مدة . قال خنزب المشاغل سيدي الوالد. أكمل إبليس : ما كنت أظن أن أحداً يسألني غير أمثالك هذا السؤال ؟ .

 اعلموا أبنائي الأعزاء إخواني الأفاضل أن التلبيس مرحلة شيطانية متقدمة لا يصلها قرين عادي ، أو شيطان مبتدأ، لأنها تتطلب خبرة يُعضدها علم ، وهو أسلوب يتبع مع صنفين من بني البشر ، إما أن يكون عابداً أو عالماً ، فالعابد أمره هين نحن لا نوسوس بما يظنه شراً ، بل نحاول بث الوسوسة على موجة يلتقطها عقله وقلبه ، نزين العبادة من غير علم فمتى أطفأ مصباح العلم تخبط في الظلام ، ونشغله عن مراجعة العلماء ، وإن كان ملماً ببعض العلم نشجعه بالإقبال على نوع عله يرتاح إلى سنة ويتخلى عن فرض ، أو الإكثار حتى تضجر نفسه وتبرد همته ، وننطق على ألسنة مقربه بالثناء ليرائي بفكرة بسيطة وهي أنك ما تُظهر ما تَقوم به إلا ليُقتدى بك ، وهكذا ....

 أما العلماء فتلك معضلة تحتاج إلى ذكاء بني شيطان ، فالتلبيس على عالم يتطلب جهوداً مضنية لكثرة ما يعتمد على النقل، لكنه يبقى إنسان وصاحب نفس وعلى قدر حظ نفسه تكون إصابتنا منه ولا يفوتني في هذه النقطة أن أُذكِّر الجميع أن صراعنا مع العلماء ذو منحيين ، منحى في نفسه كما أسلفت ، وآخر بمن حوله ، فكلما ضعف تقدير من حوله له أدركنا بغيتنا منه مثل تكبير أخطائه وجعلها أحاديث على ألسنة الناس ، والبشر احتاطوا لذلك ، فقالوا: لحوم العلماء مسمومة ، وقالوا أيضاً خطأ العالم يدل على علمه .

 لكننا معشر الشياطين لا نعرف اليأس . هنا همس عريف الحفل بأذن إبليس فقال : حسناً نقف قليلاً لتناول بعض المرطبات والحلويات فهي أجم للنفس .

 سمعت جاري يقول لصاحبه أنا تواق لحضور ورشة عمل أصحاب الفخامة والجلالة ، فضحك ، وقال : تحب السياسة . ثم غاب الصوت وانطمست الصورة ، فتنبهت فإذا بي على فراشي ، فتفلت ثلاثاً على يساري وغيرت من وضع رقدتي .

 إ